صفحة جزء
مسألة القائلون بالمفهوم أقروا بأنه لا مفهوم لقوله : { ، وإن خفتم شقاق بينهما } ، ولا لقوله : { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها } ; لأن الباعث على التخصيص العادة ، ; لأن الخلع لا يجري إلا عند الشقاق ، والمرأة لا تنكح نفسها إلا إذا أبى الولي ، وكذلك القائلون بمفهوم اللقب قالوا : لا مفهوم لقوله : { صبوا عليه ذنوبا من ماء ، وليستنج بثلاثة أحجار } ; لأنه ذكرهما لكونهما غالبين ، وإذا كان يسقط المفهوم بمثل هذا الباعث فحيث لم يظهر لنا الباعث احتمل أن يكون ثم باعث لم يظهر لنا فكيف يبنى الحكم على عدم ظهور الباعث لنا ؟

فإن قيل : فلو انتفى الباعث المخصص في علم الله تعالى ، واستوت الحاجة في المذكور ، والمسكوت ، واستويا في الذكر ، ولم يكن أحدهما منسيا فهل يجوز للنبي عليه السلام أن يخص أحدهما بالذكر ؟ فإن جوزتم فهو نسبة إلى اللغو ، والعبث ، وكان كقوله : يجب الصوم على الطويل ، والأبيض ، فقلنا : وهل يجب على القصير ، والأسود ؟ فقال : نعم . قلنا : فلم خصصت هذا بالذكر ؟ فقال : بالتشهي ، والتحكم ، فلا شك أنه ينسب إلى خلاف الجد ، ويصلح ذلك لأن يلقب به ليضحك منه كما يقول القائل اليهودي إذا مات لا يبصر ، فيكون ذلك هزؤا ، فثبت بهذا أن هذا دليل إن لم يكن باعث فإذا لم يظهر فالأصل عدمه .

أما إسقاط دلالته لتوهم باعث على التخصيص سوى اختصاص الحكم به فهو رفع للدلالة بالتوهم . قلنا : ما ذكرتموه مسلم ، وهو أيضا جار في تخصيص اللقب ، واليهودي اسم لقب ، ويستقبح تخصيصه ، ولا مفهوم للقب ; لأن ذلك يحسم سبيل القياس ، وإنما أسقط مفهوم اللقب ; لأنه ليس فيه دلالة من حيث اللفظ بل هو نطق بشيء ، وسكوت عن شيء ، فينبغي أن يقال : فلم سكت عن البعض ، ونطق بالبعض ؟ فنقول : لا ندري ، فإن ذلك يحتمل أن يكون بسبب اختصاص الحكم ، ويحتمل أن يكون بسبب آخر ، فلا يثبت الاختصاص بمجرد احتمال ، ووهم ، وكذلك تخصيص الوصف ، ولا فرق ، فإذا لسنا ندرأ الدليل بالوهم بل الخصم يبني الدليل على الوهم ، فإنه ما لم ينتف سائر البواعث لا يتعين باعث اختصاص الحكم ، وتقدير انتفاء البواعث وهم مجرد .

وأما قول القائل اليهودي إذا مات لا يبصر ، فليس استقباحه للتخصيص بل ; لأنه ذكر ما هو جلي ، فإنه لو قال : الإنسان إذا مات لم يبصر أو الحيوان إذا مات لا يبصر ، استقبح ذلك ; لأنه تعرض لما هو واضح في نفسه فإن تعرض لمشكل فلا يستقبح التخصيص في كل مقام كقوله : العبد إذا واقع في الحج لزمته الكفارة ، فهذا لا يستقبح ، وإن شاركه الحر ، وكقوله : الإنسان لا يتحرك إلا بالإرادة ، ولا يريد إلا بعد الإدراك ، فلا يستقبح ، وإن كان سائر الحيوان شاركه فيهما . هذا تمام التحقيق في المفهوم ، وبه تمام النظر في الفن الثاني ، وهو اقتباس الحكم من [ ص: 274 ] اللفظ لا من حيث صيغته ، ووضعه بل من حيث فحواه ، وإشارته ، ولم يبق إلا الفن الثالث ، وهو اقتباس الحكم من حيث معناه ، ومعقوله ، وهو القياس ، والقول فيه طويل .

ونرى أن نلحق بآخر الفن الثاني القول في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسكوته ، ووجه دلالته على الأحكام ، فإنه قد يظن أنه نازل منزلة القول في الدلالة ، ثم بعد الفراغ منه نخوض في الفن الثالث ، وهو شرح القياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية