صفحة جزء
القول في شبههم المعنوية ، وهي ست :

الأولى : قول الشيعة والتعليمية : إن الاختلاف ليس من دين الله ، ودين الله واحد ليس بمختلف ، وفي رد الخلق إلى الظنون ما يوجب الاختلاف ضرورة ، والرأي منبع الخلاف ; فإن كان كل مجتهد مصيبا فكيف يكون الشيء ، ونقيضه دينا ؟ وإن كان المصيب واحدا فهو محال ، إذ ظن هذا كظن ذاك ، والظنيات لا دليل فيها بل ترجع إلى ميل النفوس ، ورب كلام تميل إليه نفس زيد ، وهو بعينه ينفر عنه قلب عمرو ، والدليل على ذم الاختلاف قوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } .

وقال : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } ، وقال : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } ، وقال تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } ، وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } ، وكذلك ذم الصحابة رضي الله عنهم الاختلاف فقال عمر رضي الله عنه : " لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا " ، وسمع ابن مسعود ، وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد ، والثوبين ، فصعد عمر المنبر ، وقال : " اختلف رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعن أي فتياكم يصدر المسلمون ؟ لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت " ، وقال جرير بن كليب : رأيت عمر ينهى عن المتعة ، وعلي يأمر بها فقلت : إن بينكما لشرا ، فقال علي : ما بيننا إلا خير ، ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين . ، وكتب علي رضي الله عنه إلى قضاته أيام الخلافة : أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف ، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي ، والجواب : أن الذي نراه تصويب المجتهدين ، وقولهم إن الشيء ، ونقيضه كيف يكون دينا ؟ قلنا يجوز ذلك في حق [ ص: 297 ] شخصين كالصلاة ، وتركها في حق الحائض ، والطاهر ، والقبلة في حق من يظنها إذا اختلف الاجتهاد في القبلة ، وكجواز ركوب البحر ، وتحريمه في حق رجلين يغلب على ظن أحدهما السلامة ، وعلى ظن الآخر الهلاك ، وكتصديق الراوي ، والشاهد ، وتكذيبهما في حق قاضيين ، ومفتيين يظن أحدهما الصدق ، والآخر الكذب ، وأما قولهم كيف يكون الاختلاف مأمورا به ؟ قلنا : بل يؤمر المجتهد بظنه ، وإن خالفه غيره ، فليس رفعه داخلا تحت اختياره ، فالاختلاف واقع ضرورة لا أنه أمر به .

وقوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } معناه التناقض ، والكذب الذي يدعيه الملحدة أو الاختلاف في البلاغة واضطراب اللفظ الذي يتطرق إلى كلام البشر بسبب اختلاف أحواله في نظمه ، ونثره ، وليس المراد به نفي الاختلاف في الأحكام ; لأن جميع الشرائع ، والملل من عند الله ، وهي مختلفة ، والقرآن فيه أمر ، ونهي ، وإباحة ، ووعد ، ووعيد ، وأمثال ، ومواعظ ، وهذه اختلافات .

أما قوله : ولا تفرقوا ولا تنازعوا فكل ذلك نهي عن الاختلاف في التوحيد ، والإيمان بالنبي عليه السلام ، والقيام بنصرته ، وكذلك أصول جميع الديانات التي الحق فيها واحد ، ولذلك قال تعالى : { من بعد ما جاءهم البينات } وقوله تعالى : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } أراد به التخاذل عن نصرة الدين .

، وأما ما رووه عن الصحابة رضي الله عنهم في ذم الاختلاف فكيف يصح ، وهم أول المختلفين ، والمجتهدين ؟ واختلافهم واجتهادهم معلوم تواترا كيف تدفعها روايات يتطرق إلى سندها ضعف ، وإلى متنها تأويل من النهي عن الاختلاف في أصل الدين أو نصرة الدين أو في أمر الخلافة ، والإمامة ، والخلاف بعد الإجماع أو الاختلاف على الأئمة ، والولاة ، والقضاة أو نهي العوام عن الاختلاف بالرأي ، وليسوا أهل الاجتهاد .

وأما إنكار عمر اختلاف ابن مسعود ، وأبي بن كعب فلعله قد كان سبق إجماع على ثوب واحد ، ومن خالف ظن أن انقضاء العصر شرط في الإجماع ، ولذلك قال عمر : عن أي فتياكم يصدر المسلمون ؟ وأنتم جميعا تروون عن النبي عليه السلام أو لعل كل واحد أثم صاحبه ، وبالغ فيه .

فنهى عن وجه الاختلاف لا عن أصله ، أو لعلهما اختلفا على مستفت واحد فتحير السائل ، فقال : عن أي فتياكم يصدر الناس ؟ أي : العامة ، بل إذا ذكر المفتي في محل الاجتهاد شيئا فلا ينبغي للمفتي الآخر أن يخالفه بين يديه ، فيتحير السائل .

وأما اختلاف عمر ، وعلي رضي الله عنهما في تحريم المتعة فلا يصح عن علي نقله تحريم متعة النساء ، ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر كيف ، وقد علم قطعا أنهم جوزوا الاجتهاد ؟ أما كتاب علي إلى قضاته ، وكراهية الاختلاف ، فيحتمل وجوها أحدها : أنهم ربما كتبوا إليه يطلبون رأيه في بعض الوقائع فقال : اقضوا كما كنتم تقضون إذ لو خالفتموهم الآن لا نفتق به فتقا آخر ، وحمل ذلك على تعصب مني ، ومخالفة ، ويحتمل أنهم استأذنوه في مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ظن أن العصر لم ينقرض بعد ، فيجوز الخلاف فكره لهم مخالفة السابقين ، واستأذنوه في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج ، وغيرهم أو ردها فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب ; لأنهم حاربوا على تأويل ، وفي رد شهادتهم تعصب ، وتجديد خلاف . [ ص: 298 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية