صفحة جزء
النمط الثاني من البرهان : وهو نمط التلازم . يشتمل على مقدمتين ، والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين ، والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر إحدى تينك القضيتين تسليما إما بالنفي أو بالإثبات حتى تستنتج منه إحدى تينك القضيتين أو نقيضها . ولنسم هذا نمط التلازم ، ومثاله قولنا : إن كان العالم حادثا فله محدث ، فهذه مقدمة ، ومعلوم أنه حادث وهي المقدمة الثانية ، فيلزم منه أن له محدثا . والأولى اشتملت على قضيتين لو أسقط منهما حرف الشرط لانفصلتا ; إحداهما قولنا : إن كان العالم حادثا .

والثانية قولنا : فله محدث . ولنسم القضية الأولى المقدم ، ولنسم القضية الثانية اللازم والتابع . والقضية الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سميناها مقدما ، وهو قولنا : ومعلوم أن العالم حادث ، فتلزم منه النتيجة وهو أن للعالم محدثا وهو عين اللازم ، ومثاله في الفقه قولنا : إن كان الوتر يؤدى على الراحلة بكل حال فهو نفل ، ومعلوم أنه يؤدى على الراحلة فثبت أنه نفل .

وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات تنتج منها اثنتان ولا تنتج اثنتان ، أما المنتج فتسليم عين المقدم ينتج عين اللازم ، مثاله قولنا : إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ، ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم أن يكون المصلي متطهرا . ومثاله من الحس : إن كان هذا سوادا فهو لون ، ومعلوم أنه سواد فإذا هو لون أما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم فإنه ينتج نقيض المقدم مثاله قولنا : إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ، ومعلوم أن المصلي غير متطهر فينتج أن الصلاة غير صحيحة . وإن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الإلزام ، ومعلوم أنه لا يلزم بصريح الإلزام فيلزم منه أنه ليس بصحيح .

ووجه دلالة هذا النمط على الجملة أن ما يفضي إلى المحال فهو محال وهذا يفضي إلى المحال فهو إذا محال ، كقولنا : لو كان الباري سبحانه وتعالى مستقرا على العرش لكان إما مساويا للعرش أو أكبر أو أصغر وكل ذلك محال ، فما يفضي إليه محال وهذا يفضي إلى المحال فهو إذا محال .

وأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم ، فإنا لو قلنا : إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ، ومعلوم أن المصلي متطهر فلا يلزم منه لا صحة الصلاة ولا فسادها إذ قد تفسد الصلاة بعلة أخرى . وكذلك تسليم نقيض المقدم لا ينتج عين اللازم ولا نقيضه ، فإنا [ ص: 34 ] لو قلنا : ومعلوم أن الصلاة ليست صحيحة ، فلا يلزم من هذا كون المصلي متطهرا ولا كونه غير متطهر .

وتحقيق لزوم النتيجة من هذا النمط أنه مهما جعل شيء لازما لشيء فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم بل إما أخص أو مساويا ، ومهما كان أخص فثبوت الأخص بالضرورة يوجب ثبوت الأعم ، إذ يلزم من ثبوت السواد ثبوت اللون ، وهو الذي عنيناه بتسليم عين اللازم وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص بالضرورة ، إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم . وأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص فإن ثبوت اللون لا يوجب ثبوت السواد ، فلذلك قلنا تسليم عين اللازم لا ينتج .

وأما انتفاء الأخص فلا يوجب انتفاء الأعم ولا ثبوته ، فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته ، وهو الذي عنيناه بقولنا : إن تسليم نقيض المقدم لا ينتج أصلا . وإن جعل الأخص لازما للأعم فهو خطأ ، كمن يقول : إن كان هذا لونا فهو سواد . فإن كان اللازم مساويا للمقدم أنتج منه أربع تسليمات ، كقولنا : إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب لكنه موجود فإذا هو واجب ، لكنه واجب فإذا هو موجود ، لكن الرجم غير واجب فالزنا غير موجود ، لكن زنا المحصن غير موجود فالرجم غير واجب . وكذلك كل معلول له علة واحدة ، كقولنا : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فالنهار موجود ، لكن النهار موجود فهي إذا طالعة ، لكنها غير طالعة فالنهار غير موجود ، لكن النهار غير موجود فهي إذا غير طالعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية