صفحة جزء
السادسة : وهي عمدتهم الكبرى - : أن الحكم لا يثبت إلا بتوقيف ، ، والعلة غايتها أن تكون منصوصا عليها ، فلو قال الشارع : اتقوا الربا في كل مطعوم ، فهو توقيف عام ، ولو قال : اتقوا الربا في البر ; لأنه مطعوم ، فهذا لا يساويه ، ولا يقتضي الربا في غير البر ، كما لو قال المالك : أعتق من عبيدي كل أسود عتق كل أسود ، فلو قال : أعتق غانما لسواده أو ; لأنه أسود ، لم يعتق جميع عبيده السود .

وكذلك لو علل بمخيل ، وقال : أعتقوا غانما ; لأنه سيئ الخلق حتى أتخلص منه ، لم يلزم عتق سالم ، وإن كان أسوأ خلقا منه ، فإذا كانت العلة المنصوصة لا يمكن تعديتها لقصور لفظها فالمستنبطة كيف تعدى ؟ أو كيف يفرق بين كلام الشارع ، وبين كلام غيره في الفهم ؟ وإنما منهاج الفهم وضع اللسان ، وذلك لا يختلف ، والجواب : أن نفاة القياس ثلاث فرق ، وهذا لا يستقيم من فريقين ، وإنما يستقيم من الفريق الثالث ، إذ منهم من قال : التنصيص على العلة كذكر اللفظ العام فإنه لا فرق بين قوله : حرمت الخمر لشدتها ، وبين قوله : حرمت كل مشتد ، في أن كل واحد يوجب تحريم النبيذ لكن بطريق اللفظ لا بطريق القياس بل فائدة قوله " لشدتها " إقامة الشدة مقام الاسم العام فقد أقر هذا القائل بالإلحاق إنما أنكر تسميته قياسا الفريق الثاني من القاشانية ، والنهروانية ; فإنهم أجازوا القياس بالعلة المنصوصة دون المستنبطة فقالوا : إذا كشف النص أو دليل آخر عن الأصل كانت العلة جامعة للحكم في جميع مجاريها ، وما فارقهم الفريق الأول إلا في التسمية حيث لم يسموا هذا الفن قياسا ، والفريقان مقران بأن هذا في العتق ، والوكالة لا يجري فلا يصح منهما الاستشهاد مع الإقرار بالفرق .

أما الفريق الثالث ، وهو من أنكر الإلحاق مع التنصيص على العلة فتستقيم لهم هذه الحجة ، وجوابهم من ثلاثة أوجه :

الأول : أن الصيرفي من أصحابنا يتشوف إلى التسوية ، فقال : لو قال : أعتقت هذا العبد لسواده فاعتبروا قيسوا عليه كل أسود ، لعتق كل عبد أسود ، وهو وزان مسألتنا إذا أمرنا بالقياس ، والاعتبار ، ولو لم يثبت التعبد به لكان مجرد التنصيص على العلة لا يرخص في الإلحاق إذ يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة ، ومنهم من قال : إن علم قطعا قصده إلى عتقه [ ص: 300 ] لسواده عتق كل عبد أسود بقوله : " أعتقت غانما لسواده " ، ومنهم من قال :

لا يكفي أن يعلم قصده إلى عتقه بمجرد السواد ما لم ينو بهذا اللفظ عتق جميع السودان ، فإن نوى كفاه هذا اللفظ لإعتاق جميع السودان مع النية ، ولم يكن فيه إلا إرادته معنى عاما بلفظ خاص ، وذلك غير منكر كما لو قال : والله لا أكلت لفلان خبزا ، ولا شربت من مائه جرعة ، ونوى به دفع المنة حنث بأخذ الدراهم ، والثياب ، والأمتعة وصلح اللفظ الخاص مع هذه النية للمعنى العام كما صلح قوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } للنهي عن الإتلاف العام .

وقوله : { فلا تقل لهما أف } للنهي عن الإيذاء العام ، فإذا استتب لهؤلاء الفرق التسوية بين الخطابين فإنهم إنما يعممون الحكم إذا دل الدليل على إرادة الشرع تعليق الحكم بالشدة المجردة ، ولكنه غير مرضي عندنا بل الصحيح أنه لا يعتق إلا غانم بقوله : أعتقت غانما لسواده ، وإن نوى عتق السودان ; لأنه يبقى في حق غير غانم مجرد النية ، والإرادة فلا تؤثر .

الوجه الثاني من الجواب : أن الأمة مجمعة على الفرق ، إذ تجب التسوية في الحكم مهما قال " حرمت الخمر لشدتها فقيسوا عليها كل مشتد " ، ولو قال " أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه كل أسود " اقتصر العتق على غانم عند الأكثرين ، فكيف يقاس أحدهما على الآخر مع الاعتراف بالفرق ؟ ، وإنما اعترفوا بالفرق ; لأن الحكم لله في أملاك العباد ، وفي أحكام الشرع ، وقد علق أحكام الأملاك حصولا ، وزوالا بالألفاظ دون الإرادات المجردة .

وأما أحكام الشرع فتثبت بكل ما دل على رضا الشرع ، وإرادته من قرينة ، ودلالة ، وإن لم يكن لفظا بدليل أنه لو بيع مال لتاجر بمشهد منه بأضعاف ثمنه فاستبشر ، وظهر أثر الفرح عليه لم ينفذ البيع إلا بتلفظه بإذن سابق أو إجازة لاحقة عند أبي حنيفة ، ولو جرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فسكت عليه دل سكوته على رضاه ، وثبت الحكم به فكيف يتساويان ؟ بل ضيق الشرع تصرفات العباد حتى لم تحصل أحكامها بكل لفظ بل ببعض الألفاظ ، فإنه لو قال الزوج : فسخت النكاح ، وقطعت الزوجية ورفعت علاقة الحل بيني ، وبين زوجتي ، لم يقع الطلاق ما لم ينو الطلاق ; فإذا تلفظ بالطلاق وقع ، وإن نوى غير الطلاق

فإذا لم تحصل الأحكام بجميع الألفاظ بل ببعضها فكيف تحصل بما دون اللفظ مما يدل على الرضا ؟

الوجه الثالث : أن قول القائل : " لا تأكل هذه الحشيشة ; لأنها سم ، ولا تأكل الإهليلج فإنه مسهل ، ولا تأكل العسل فإنه حار ، ولا تأكل أيها المفلوج القثاء فإنه بارد ، ولا تشرب الخمر ، فإنه يزيل العقل ، ولا تجالس فلانا فإنه أسود فأهل اللغة متفقون على أن معقول هذا التعليل تعدى النهي إلى كل ما فيه العلة ، هذا مقتضى اللغة

، وهذا أيضا مقتضاه في العتق ; لكن التعبد منع من الحكم بالعتق بالتعليل بل لا بد فيه من اللفظ الصريح المطابق للمحل ، ولا مانع منه في الشرع إذ كل ما عرف بإشارة ، وأمارة ، وقرينة فهو كما عرف باللفظ فكيف يستويان مع الإجماع على الفرق ؟ ; لأن المفرق بين المتماثلات كالجامع بين المختلفات فمن أثبت الحكم للخلافين يتعجب منه ، ويطلب منه الجامع ، ومن فرق بين المثلين يتعجب منه لماذا فرق بينهما .

فإن قيل : إن قال من تجب طاعته : بع هذه الدابة لجماحها ، وبع هذا العبد لسوء خلقه ، فهل يجوز للمأمور بيع ما شاركه في العلة ؟ فإن قلتم [ ص: 301 ] يجوز فقد خالفتم الفقهاء ، وإن منعتم فما الفرق بين كلامه وبين كلام الشارع مع الاتفاق في الموضعين ؟

وإن ثبت تعبد في لفظ العتق والطلاق بخصوص الجهة فلم يثبت في لفظ الوكالة قلنا : إن كان قد قال له : إن ما ظهر لك إرادتي إياه أو رضاي به بطرق الاستدلال دون صريح اللفظ فافعله فله أن يفعل ذلك ; وهو وزان حكم الشرع لكن يشترط أمر آخر ، وهو أن يقطع بأنه أمر ببيعه لمجرد سوء الخلق لا لسوء الخلق مع القبح أو مع الخرق في الخدمة ، فإنه قد يذكر بعض أوصاف العلة ، فإن لم يعلم قطعا ولكن ظنه ظنا فينبغي أن يكون قد قال له : ظنك نازل منزلة العلم في تسليطك على التصرف فإن اجتمعت هذه الشروط جاز التصرف ، وهو وزان مسألتنا .

فإن قيل : وإن كان الشارع قد قال : ما عرفتموه بالقرائن والدلائل من رضاي وإرادتي فهو كما عرفتموه بالصريح ، فلم يقل : إني إذا ذكرت علة شيء ذكرت تمام أوصافه ، فلعله علل تحريم الخمر بشدة الخمر ، وتحريم الربا بطعم البر خاصة لا للشدة المجردة ، ولله أسرار في الأعيان فقد حرم الخنزير والميتة والدم والموقوذة والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير لخواص لا يطلع عليها ، فلم يبعد أن يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ ؟ فبماذا يقع الأمر عن هذا ؟ وهذا أوقع كلام في مدافعة القياس .

والجواب : أن خاصة المحل قد يعلم ضرورة سقوط اعتبارها ، كقوله : { أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أولى بمتاعه } ، إذ يعلم أن المرأة في معناه ، وقوله { من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي } ، فالأمة في معناه ; لأنا عرفنا بتصفح أحكام العتق والبيع وبمجموع أمارات وتكريرات وقرائن أنه لا مدخل للأنوثة في البيع والعتق وقد يعلم ذلك ظنا بسكون النفس إليه ، وقد عرفنا أن الصحابة رضي الله عنهم عولوا على الظن فعلمنا أنهم فهموا من النبي عليه السلام قطعا إلحاق الظن بالقطع ، ولولا سيرة الصحابة لما تجاسرنا عليه ; وقد اختلفوا في مسائل ولو كانت قطعية لما اختلفوا فيها ، فعلمنا أن الظن كالعلم أما حيث انتفى الظن والعلم وحصل الشك فلا يقدم على القياس أصلا

التالي السابق


الخدمات العلمية