صفحة جزء
: كتاب النسخ

وهذا كتاب النسخ

الباب الأول : في حده وحقيقته وإثباته

والنظر في حده وحقيقته ، ثم في إثباته على منكريه ، ثم في أركانه وشروطه وأحكامه فنرسم فيه أبوابا

الباب الأول : في حده وحقيقته وإثباته

أما حده : فاعلم أن النسخ عبارة عن الرفع والإزالة في وضع اللسان ، يقال : نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الآثار ، إذا أزالتها . وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب ، فهو مشترك . ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والإزالة ، فنقول : حده أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه . وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا للفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل ، إذ يجوز النسخ بجميع ذلك .

وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم ; لأن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم العقل من براءة الذمة ، ولا يسمى نسخا ; لأنه لم يزل حكم خطاب . وإنما قيدنا بارتفاع الحكم ولم نقيد بارتفاع الأمر والنهي ليعم جميع أنواع الحكم من الندب والكراهة والإباحة ، فجميع ذلك قد ينسخ .

وإنما قلنا لولاه لكان الحكم ثابتا به ; لأن حقيقة النسخ الرفع ، فلو لم يكن هذا ثابتا لم يكن هذا رافعا ; لأنه إذا ورد أمر بعبادة مؤقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تصرم ذلك الوقت لا يكون الثاني نسخا ، فإذا قال : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } ثم قال : في الليل لا تصوموا لا يكون ذلك نسخا بل الرافع ما لا يرتفع الحكم لولاه . وإنما قلنا مع تراخيه عنه ; لأنه لو اتصل به لكان بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط .

وإنما يكون رافعا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ . وأما الفقهاء فإنهم لم يعقلوا الرفع لكلام الله تعالى فقالوا في حد النسخ : إنه الخطاب الدال الكاشف عن مدة العبادة أو عن زمن انقطاع العبادة ، وهذا يوجب أن يكون قوله : صم بالنهار [ ص: 87 ] وكل بالليل نسخا ، وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } نسخا .

وليس فيه معنى الرفع . ولا يغنيهم أن يزيدوا شرط التراخي ، فإن قوله الأول إذا لم يتناول إلا النهار فهو متقاعد عن الليل بنفسه ، فأي معنى لنسخه ؟ وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وأريد باللفظ الدلالة عليه وما ذكروه تخصيص وسنبين وجه مفارقة النسخ للتخصيص ، بل سنبين أن الفعل الواحد إذا أمر به في وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة .

وأما المعتزلة فإنهم حدوه بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتا ، وربما أبدلوا لفظ الزائل بالساقط ، وربما أبدلوه بالغير الثابت كل ذلك حذرا من الرفع ، وحقيقة النسخ الرفع فكأنهم أخلوا الحد عن حقيقة المحدود .

فإن قيل : تحقيق معنى الرفع في الحكم يمتنع من خمسة أوجه .

الأول : أن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له ، والثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه ، فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو هو بيان لمدة العبادة كما قاله الفقهاء

الثاني : أن كلام الله تعالى قديم عندكم والقديم لا يتصور رفعه .

الثالث : أن ما أثبته الله تعالى إنما أثبته لحسنه ، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال

الرابع : أن ما أمر به أراد وجوده فما كان مرادا كيف ينهى عنه حتى يصير مراد العدم مكروها .

الخامس : أنه يدل على البداء ، فإنه نهى عنه بعدما أمر به فكأنه بدأ له فيما كان قد حكم به وندم عليه . فالاستحالة الأولى من جهة استحالة نفس الرفع ، والثانية من جهة قدم الكلام ، والثالثة من جهة صفة ذات المأمور في كونه حسنا قبيحا ، والرابعة من جهة الإرادة المقترنة بالأمر ، والخامسة من جهة العلم المتعلق به وظهور البداء بعده .

والجواب عن الأول : أن الرفع من المرفوع كالكسر من المكسور وكالفسخ من العقد ، إذ لو قال قائل : ما معنى كسر الآنية وإبطال شكلها من تربيع وتسديس وتدوير ، فإن الزائل بالكسر تدوير موجود أو معدوم والمعدوم لا حاجة إلى إزالته والموجود لا سبيل إلى إزالته ؟ فيقال : معناه أن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائما لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر ، فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية دائما لولا الكسر ، فكذلك الفسخ يقطع حكم العقد من حيث إن الذي ورد عليه لولاه لدام ، فإن البيع سبب للملك مطلقا بشرط أن لا يطرأ قاطع .

وليس طريان القاطع من الفسخ مبينا لنا أن البيع في وقته انعقد مؤقتا ممدودا إلى غاية الفسخ ، فإنا نعقل أن نقول بعتك هذه الدار سنة ونعقل أن نقول بعتك وملكتك أبدا ثم نفسخ بعد انقضاء السنة وندرك الفرق بين الصورتين . وأن الأول وضع لملك قاصر بنفسه ، والثاني وضع لملك مطلق مؤبد إلى أن يقطع بقاطع ، فإذا فسخ كان الفسخ قاطعا لحكمه الدائم بحكم العقد لولا القاطع لا بيانا لكونه في نفسه قاصرا .

وبهذا يفارق النسخ التخصيص ، فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ ما أريد به الدلالة إلا على البعض والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد به الدلالة عليه ، ولأجل خفاء معنى الرفع أشكل على الفقهاء ووقعوا في إنكاره معنى النسخ . وأما الجواب عن الثاني وهو استحالة رفع الكلام القديم ، فهو فاسد ، إذ ليس معنى النسخ رفع الكلام بل قطع تعلقه بالمكلف والكلام [ ص: 88 ] القديم يتعلق بالقادر العاقل ، فإذا طرأ العجز والجنون زال التعلق ، فإذا عاد العقل والقدرة عاد التعلق ، والكلام القديم لا يتغير في نفسه ، فالعجز والموت سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب عنه ، والنسخ سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب ، كما أن حكم البيع وهو ملك المشتري إياه تارة ينقطع بموت العبد المبيع وتارة بفسخ العاقد .

ولأجل خفاء هذه المعاني أنكر طائفة قدم الكلام . وأما الجواب عن الثالث ، وهو انقلاب الحسن قبيحا فقد أبطلنا معنى الحسن والقبح وإنه لا معنى لهما ، وهذا أولى من الاعتذار بأن الشيء يجوز أن يحسن في وقت ويقبح في وقت ; لأنه قد قال في رمضان : لا تأكل بالنهار وكل بالليل ، لأن النسخ ليس مقصورا عندنا على مثل ذلك ، بل يجوز أن يأمر بشيء واحد في وقت وينهى عنه قبل دخول الوقت فيكون قد نهى عما أمر به كما سيأتي .

وأما الجواب عن الرابع ، وهو صيرورة المراد مكروها ، فهو باطل ; لأن الأمر عندنا يفارق الإرادة . فالمعاصي مرادة عندنا وليست مأمورا بها ، وسيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر . وأما الجواب عن الخامس وهو لزوم البداء ، فهو فاسد ; لأنه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح وينهى عما أمر فذلك جائز { يمحو الله ما يشاء ويثبت } ولا تناقض فيه ، كما أباح الأكل بالليل وحرمه بالنهار ، وإن كان المراد أنه انكشف له ما لم يكن عالما به فهو محال ، ولا يلزم ذلك من النسخ ، بل يعلم الله تعالى أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم ثم يقطع التكليف بنسخه عنهم فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه ، وليس فيه تبين بعد جهل .

فإن قيل فهم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ أو أبدا ؟ فإن كان إلى وقت النسخ فالنسخ قد بين وقت العبادة كما قاله الفقهاء ، وإن كانوا مأمورين أبدا فقد تغير علمه ومعلومه . قلنا هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع الحكم المطلق عنهم الذي لولاه لدام الحكم ، كما يعلم الله تعالى البيع المطلق مفيدا للملك إلى أن ينقطع بالفسخ ولا يعلم البيع في نفسه قاصرا على مدة بل يعلمه مقتضيا لملك مؤبد بشرط أن لا يطرأ قاطع ، لكن يعلم أن النسخ سيكون فينقطع الحكم لانقطاع شرطه لا لقصوره في نفسه .

فليس إذا في النسخ لزوم البداء ، ولأجل قصور فهم اليهود عن هذا أنكروا النسخ ، ولأجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ، ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره ، وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال : ما بدا الله في شيء كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه . وهذا هو الكفر الصريح ونسبة الإله تعالى إلى الجهل والتغير .

ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط بكل شيء علما وأنه ليس محلا للحوادث والتغيرات . وربما احتجوا بقوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } وإنما معناه أنه يمحو الحكم المنسوخ ويثبت الناسخ أو يمحو السيئات بالتوبة ، كما قال تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، ويمحو الحسنات بالكفر والردة ، أو يمحو ما ترفع إليه الحفظة من المباحات ويثبت الطاعات .

فإن قيل : فما الفرق بين التخصيص والنسخ ؟ قلنا : هما مشتركان من وجه ، إذ كل واحد يوجب اختصاص الحكم ببعض ما تناول اللفظ ، لكن التخصيص بيان أن ما أخرج عن عموم الصيغة ما أريد باللفظ الدلالة عليه ، والنسخ [ ص: 89 ] يخرج عن اللفظ ما قصد به الدلالة عليه ، فإن قوله : افعل أبدا يجوز أن ينسخ وما أريد باللفظ بعض الأزمنة بل الجميع ، لكن بقاؤه مشروط بأن لا يرد ناسخ كما إذا قال : ملكتك أبدا ، ثم يقول : فسخت ، فالفسخ هذا إبداء ما ينافي شرط استمرار الحكم بعد ثبوته وقصد الدلالة عليه باللفظ ، فلذلك يفترقان في خمسة أمور :

الأول : أن الناسخ يشترط تراخيه ، والتخصيص يجوز اقترانه ; لأنه بيان بل يجب اقترانه عند من لا يجوز تأخير البيان .

الثاني : أن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد والنسخ يدخل عليه .

والثالث : أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب ، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع .

الرابع : أن التخصيص يبقي دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا على ما فيه من الاختلاف ، والنسخ يبطل دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية .

الخامس : أن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس ، وخبر الواحد وسائر الأدلة ، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع ، وليس من الفرق الصحيح قول بعضهم إن النسخ لا يتناول إلا الأزمان والتخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال ، وهذا تجوز واتساع ; لأن الأعيان والأزمان ليست من أفعال المكلفين ، والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان والتخصيص أيضا يرد على الفعل في بعض الأحوال ، فإذا قال : اقتلوا المشركين إلا المعاهدين ، معناه : لا تقتلوهم في حالة العهد واقتلوهم في حالة الحرب ، والمقصود أن ورود كل واحد منهما على الفعل .

وهذا القدر كاف في الكشف عن حقيقة النسخ .

التالي السابق


الخدمات العلمية