صفحة جزء
[ هل يعتبر شرط الواقف مطلقا ؟ ]

فإن قلتم : الواقف لم يخرج ماله إلا على وجه معين ، فلزم اتباع ما عينه في الوقف من ذلك الوجه ، والناذر قصد القربة ، والقرب متساوية في المساجد غير الثلاثة ، فتعين بعضها لغو .

قيل : هذا الفرق بعينه يوجب عليكم إلغاء ما لا قربة فيه من شروط الواقفين ، واعتبار ما فيه قرابة ، فإن الواقف إنما مقصوده بالوقف التقرب إلى الله فتقربه بوقفه كتقربه بنذره ، فإن العاقل لا يبدل ماله إلا لما فيه مصلحة عاجلة أو آجلة ، والمرء في حياته قد يبذل ماله في أغراضه مباحة كانت أو غيرها وقد يبذله فيما يقربه إلى الله ، وأما بعد مماته فإنما يبذله فيما يظن أنه يقرب إلى الله ، ولو قيل له : " إن هذا المصرف لا يقرب إلى الله - عز وجل - أو إن غيره أفضل وأحب إلى الله منه وأعظم أجرا " لبادر إليه ، ولا ريب أن العاقل إذا قيل له : " إذا بذلت مالك في مقابلة هذا الشرط حصل لك أجر واحد ، وإن تركته حصل لك أجران " فإنه يختار ما فيه الأجر الزائد ، فكيف إذا قيل له : " إن هذا لا أجر فيه ألبتة " ؟ فكيف إذا قيل : " إنه مخالف لمقصود الشارع مضاد له يكرهه الله ورسوله " ؟ وهذا كشرط العزوبية مثلا وترك النكاح ، فإنه [ ص: 237 ] شرط لترك واجب أو سنة أفضل من صلاة النافلة وصومها أو سنة دون الصلاة والصوم ، فكيف يلزم الوفاء بشرط ترك الواجبات والسنن اتباعا لشرط الواقف وترك شرط الله ورسوله الذي قضاؤه أحق وشرطه أوثق ؟

يوضحه أنه لو شرط في وقفه أن يكون على الأغنياء دون الفقراء كان شرطا باطلا عند جمهور الفقهاء ، قال أبو المعالي الجويني ، هو إمام الحرمين رضي الله عنه : ومعظم أصحابنا قطعوا بالبطلان ، هذا مع أن وصف الغنى وصف مباح ونعمة من الله ، وصاحبه إذا كان شاكرا فهو أفضل من الفقير مع صبره عند طائفة كثيرة من الفقهاء والصوفية ، فكيف يلغى هذا الشرط ويصح شرط الترهب في الإسلام الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { : لا رهبانية في الإسلام } ؟ .

يوضحه أن من شرط التعزب فإنما قصد أن تركه أفضل وأحب إلى الله ، فقصد أن يتعبد الموقوف عليه بتركه ، وهذا هو الذي تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منه بعينه فقال { : من رغب عن سنتي فليس مني } وكان قصد أولئك الصحابة هو قصد هؤلاء الواقفين بعينه سواء ، فإنهم قصدوا ترفية أنفسهم على العبادة وترك النكاح الذي يشغلهم ، تقربا إلى الله بتركه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما قال ، وأخبر أنه من رغب عن سنته فليس منه ، وهذا في غاية الظهور ، فكيف يحل الإلزام بترك شيء قد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن من رغب عنه فليس منه ؟ هذا مما لا تحتمله الشريعة بوجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية