صفحة جزء
فصل :

[ فتاوى في حد الزنا ] { وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : إن ابني كان عسيفا على هذا ، فزنى بامرأته ، فافتديت منه بمائة شاة وخادم ، وإني سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، المائة والخادم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها } متفق عليه .

{ وقضى صلى الله عليه وسلم فيمن زنى ، ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه } ذكره البخاري .

{ وقضى صلى الله عليه وسلم أن الثيب بالثيب جلد مائة ثم الرجم ، والبكر بالبكر جلد مائة ثم نفي سنة } ذكره مسلم .

{ وجاءه اليهود فقالوا : إن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ; فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما بعدها وما قبلها ، فقال له [ ص: 280 ] عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده فإذا آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم ، فأمر بهما فرجما } ، متفق عليه .

ولأبي داود { أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقالوا : اذهبوا به إلى هذا النبي ; فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها منه ، واحتجبنا بها عند الله ، وقلنا : إنها فتيا نبي من أنبيائك ; فأتوه وهو جالس في المسجد في الصحابة ، فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة على من زنى إذ أحصن ؟ قالوا : يحمم ويجبه ويجلد ، والتجبيه : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما ، فسكت شاب منهم ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت نظر إليه وأنشده فقال : اللهم إذ أنشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال : زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ; ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه ; وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما } .

وعند أبي داود أيضا { أنه دعا بالشهود ، فجاءه أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة } .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك أن يطهره ، وقال : إني قد زنيت ، فأرسل إلى قومه : هل تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا ؟ قالوا : ما نعلمه إلا أوفى العقل من صالحينا فيما نرى ، فأقر أربع مرات ، فقال له في الخامسة : أنكتها ؟ قال : نعم ، قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ قال : نعم . قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر ؟ قال : نعم ، قال : فهل تدري ما الزنا ؟ قال : نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا ، قال : فما تريد بهذا القول ؟ قال : أريد أن تطهرني ، فأمر رجلا فاستنكهه ، ثم أمر به فرجم ، ولم يحفر له ، فلما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل فضربه وضربه الناس حتى مات ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هلا تركتموه وجئتموني به } .

وفي بعض طرق هذه القصة { أنه صلى الله عليه وسلم قال له : شهدت على نفسك أربع مرات ، اذهبوا به فارجموه } .

وفي بعضها : { فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : أهل أحصنت ؟ قال : نعم ، قال : اذهبوا به فارجموه } .

[ ص: 281 ] وفي بعض طرقها { أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجليه ، فقال : أين فلان وفلان ؟ فقالا : نحن ذان يا رسول الله ، فقال : انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار ، فقالا : يا نبي الله من يأكل هذا ؟ قال : فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد أكلا منه ، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها } .

وفي بعض طرقها { أنه صلى الله عليه وسلم قال له : لعلك رأيت في منامك ، لعلك استكرهت } ، وكل هذه الألفاظ صحيحة .

وفي بعضها { أنه أمر فحفرت له حفيرة } ، ذكره مسلم ، وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر ، وإن كان مسلم قد روى له في الصحيح فالثقة قد يغلط على أن أحمد وأبا حاتم الرازي قد تكلما فيه ، وإنما حصل الوهم من حفرة الغامدية ، فسرى إلى ماعز ، والله أعلم .

{ وجاءته صلى الله عليه وسلم الغامدية ، فقالت إني قد زنيت فطهرني ، وإنه رددها ، فقالت : ترددني كما رددت ماعزا فوالله إني لحبلى ، فقال : اذهبي حتى تلدي ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، فقالت : هذا قد ولدته ، فقال : اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ، فلما فطمته أتته به ، وفي يده كسرة من خبز ; فقالت : هذا قد فطمته وأكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه ، فسبها ، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها ، فقال مهلا يا خالد ، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصل عليها ودفنت } ، ذكره مسلم .

{ وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ، ولم يسأله عنه ، وحضرت الصلاة ، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه الرجل فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله ، قال : أليس قد صليت معنا ؟ قال : نعم ، قال : فإن الله قد غفر لك ذنبك - أو قال - حدك } ، متفق عليه .

وقد اختلف في وجه هذا الحديث ; فقالت طائفة : أقر بحد لم يسمه فلم يجب على الإمام استفساره ، ولو سماه لحده كما حد ماعزا ، وقالت طائفة : بل غفر الله له بتوبته ، [ ص: 282 ] والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وعلى هذا فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله - تعالى - كما تسقط عن المحارب ، وهذا هو الصواب .

{ وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : أصبت من امرأة قبلة ، فنزلت : { أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } فقال الرجل : إلي هذه ؟ فقال : بل لمن عمل بها من أمتي } متفق عليه .

وقد استدل به من يرى أن التعزير ليس بواجب ، وأن للإمام إسقاطه ، ولا دليل فيه ، فتأمله .

{ وخرجت امرأة تريد الصلاة ، فتجللها رجل فقضى حاجته منها ، فصاحت وفر ، ومر عليها غيره فأخذوه ; فظنت أنه هو وقالت : هذا الذي فعل بي ، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر برجمه ; فقام صاحبها الذي وقع عليها ، فقال : أنا صاحبها ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اذهبي فقد غفر الله لك ، وقال للرجل قولا حسنا ، فقالوا : ألا ترجم صاحبها ؟ فقال لا ، لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم } ذكره أحمد وأهل السنن ، ولا فتوى ولا حكم أحسن من هذا .

فإن قيل : كيف أمر برجم البريء ؟ قيل : لو أنكر لم يرجمه ; ولكن لما أخذ وقالت : هو هذا ، ولم ينكر ، ولم يحتج عن نفسه ، فاتفق مجيء القوم به في صورة المريب ، وقول المرأة هذا هو ، وسكوته سكوت المريب ، وهذه القرائن أقوى من قرائن حد المرأة بلعان الرجل وسكوتها ، فتأمله .

التالي السابق


الخدمات العلمية