صفحة جزء
واختلفوا في الجدار يهدم ، هل يضمن بقيمته ، أو يعاد مثله ؟ على قولين ، وهما للشافعي ، والصحيح ما دلت عليه النصوص وهو مقتضى القياس الصحيح ، وما عداه فمناقض للنص والقياس ; لأن الجميع يضمن بالمثل تقريبا ، وقد نص الله - سبحانه - على ضمان الصيد بمثله من النعم ، ومعلوم أن المماثلة بين بعير وبعير أعظم من المماثلة بين النعامة والبعير وبين شاة وشاة أعظم منها بين طير وشاة ، وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم بدل البعير الذي أقرضه مثله دون قيمته ورد عوض القصعة التي كسرتها بعض أزواجه قصعتها نظيرها ، وقال : إناء بإناء وطعام بطعام ، فسوى بينهما في الضمان ، وهذا عين العدل ومحض القياس وتأويل القرآن .

وقد نص الإمام أحمد على هذا في مسائل إسحاق بن منصور ، قال إسحاق : قلت لأحمد : قال سفيان : من كسر شيئا صحيحا فقيمته صحيحا ، فقال أحمد : إن كان يوجد مثله فمثله ، وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته ، ونص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد فقال : سألت أحمد عن الرجل يكسر قصعة الرجل ، أو عصاه ، أو يشق ثوبا لرجل ، قال : عليه المثل في العصا والقصعة والثوب ، فقلت : أرأيت إن كان الشق قليلا ؟ فقال : صاحب الثوب مخير في ذلك قليلا كان ، أو كثيرا .

وقال في رواية إسحاق بن منصور : من كسر شيئا صحيحا فإن كان يوجد مثله فمثله وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته ، فإذا كسر الذهب فإنه يصلحه إن كان خلخالا ، وإن كان [ ص: 244 ] دينارا أعطى دينارا آخر مكانه ، قال إسحاق كما قال ، وقال في رواية موسى بن سعيد : وعليه المثل في العصا والقصعة والقصبة إذا كسر وفي الثوب ، ولا أقول في العبد والبهائم والحيوان ، وصاحب الثوب مخير إن شاء شق الثوب وإن شاء أخذ مثله ، واحتج في رواية ابنه عبد الله بحديث أنس فقال حميد عن أنس : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقصعة فيها طعام ، فضربت بيدها فكسرت القصعة ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى وجعل يجمع فيها الطعام ويقول : غارت أمكم ، كلوا ، فأكلوا ، وحبس الرسول حتى جاءت قصعة التي هو في بيتها فدفع القصعة إلى الرسول ، وحبس المكسورة في بيته } والحديث في صحيح البخاري وعند الترمذي فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { طعام بطعام وإناء بإناء } وقال : حديث صحيح .

وعند أبي داود والنسائي فيه { قالت عائشة : فقلت : يا رسول الله ما كفارة ما صنعت ؟ قال : إناء مثل إناء وطعام مثل طعام } وهذا هو مذهبه الصحيح عنه عند ابن أبي موسى ، قال في إرشاده : ومن استهلك لآدمي ما لا يكال ولا يوزن فعليه مثله إن وجد ، وقيل : عليه قيمته ، وهو اختيار المحققين من أصحابه .

وقضى عثمان وابن مسعود على من استهلك لرجل فصلانا بفصلان مثلها وبالمثل قضى شريح والعنبري وقال به قتادة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، وهو الحق ، وليس مع من ، أوجب القيمة نص ولا إجماع ولا قياس ، وليس معهم أكثر ولا أكبر من قوله صلى الله عليه وسلم { من أعتق شركا له في عبد فكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد } قالوا : أوجب النبي صلى الله عليه وسلم في إتلاف نصيب الشريك القيمة لا المثل ، فقسنا على هذا كل حيوان ، ثم عديناه إلى كل [ غير ] مثلي ، قالوا : ولأن القيمة أضبط وأحصر بخلاف المثل ، قال الآخرون : أما الحديث الصحيح فعلى الرأس والعين وسمعا له وطاعة ، ولكن فيما دل عليه ، وإلا فما لم يدل عليه ولا أريد به فلا ينبغي أن يحمل عليه ، وهذا التضمين الذي يضمنه ليس من باب تضمين المتلفات ، بل هو من باب تملك مال الغير بقيمته ، فإن نصيب الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه ، فلا بد من تقدير دخوله في ملكه ليعتق عليه ، ولا خلاف بين القائلين بالسراية في ذلك ، وأن الولاء له ، وإن تنازعوا : هل يسري عقيب عتقه ، أو لا يعتق حتى يؤدي القيمة ، أو يكون موقوفا فإذا أدى تبين أنه عتق من حين العتق ؟ وهي في مذهب الشافعي ، والمشهور في مذهبه ومذهب أحمد القول الأول .

وفي مذهب مالك القول الثاني ، وعلى هذا الخلاف يبتني ما لو أعتق الشريك نصيبه بعد عتق الأول ، فعلى القول الأول لا يعتق ، وعلى القول الثاني يعتق عليه ويكون الولاء بينهما ، ويبتني على ذلك أيضا إذا قال أحد [ ص: 245 ] الشريكين " إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر " فعلى القول الأول لا يصح هذا التعليق ويعتق نصيبه من مال المعتق ، وعلى القول الثاني يصح التعليق ويعتق على المعلق ، والمقصود أن التضمين ههنا كتضمين الشفيع الثمن إذا أخذ بالشفعة ، فإنه ليس من باب ضمان الإتلاف ، ولكن من باب التقويم للدخول في الملك ، لكن الشفيع أدخل الشارع الشقص في ملكه بالثمن باختياره والشريك المعتق أدخل الشقص في ملكه بالقيمة بغير اختياره ، فكلاهما تمليك : هذا بالثمن ، وهذا بالقيمة ، فهذا شيء وضمان المتلف شيء .

قالوا : وأيضا فلو سلم أنه ضمان إتلاف لم يدل على أن العبد الكامل إذا أتلف يضمن بالقيمة ، والفرق بينهما أن الشريكين إذا كان بينهما ما لا يقسم كالعبد والحيوان والجوهرة ونحو ذلك فحق كل واحد منهما في نصف القيمة ، فإذا اتفقا على المهايأة جاز ، وإن تنازعا وتشاجرا بيعت العين وقسم بينهما ثمنها على قدر ملكيهما كما يقسم المثلي ، فحقهما في المثلي في عينه .

وفي المتقوم عند التشاجر والتنازع في قيمته ، فلولا أن حقه في القيمة لما أجيب إلى البيع إذا طلبه ، وإذا ثبت ذلك فإذا أتلف له نصف عبد فلو ضمناه بمثله لفات حقه من نصف القيمة الواجب له شرعا عند طلب البيع ، والشريك إنما حقه في نصف القيمة ، وهما لو تقاسماه تقاسماه بالقيمة ، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالمثل ، فهذا هو القياس والميزان الصحيح طردا وعكسا الموافق للنصوص وآثار الصحابة ، ومن خالفه فلا بد له من أحد أمرين : إما مخالفة السنة الصحيحة وآثار الصحابة إن طرد قياسه ، وإما التناقض البين إن لم يطرده

التالي السابق


الخدمات العلمية