صفحة جزء
الخطأ الثالث : تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه ، وجزمهم بموجبه ، لعدم علمهم بالناقل ، وليس عدم العلم علما بالعدم .

[ الاستصحاب وأقسامه ]

وقد تنازع الناس في الاستصحاب ، ونحن نذكر أقسامه ومراتبها فالاستصحاب : استفعال من الصحبة ، وهي استدامة إثبات ما كان ثابتا أو نفي ما كان منفيا ، وهو ثلاثة أقسام : استصحاب البراءة الأصلية ، واستصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه ، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع .

[ استصحاب البراءة الأصلية ]

فأما النوع الأول فقد تنازع الناس فيه : فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين : إنه يصلح للدفع لا للإبقاء ، كما قاله بعض الحنفية ، ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال لإبقاء الأمر على ما كان ، فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم ، لا إلى عدم المغير له ، فإذا لم نجد دليلا نافيا ولا مثبتا أمسكنا ، لا نثبت الحكم ولا ننفيه ، بل ندفع بالاستصحاب دعوى من أثبته ، فيكون حال المتمسك [ بالاستصحاب ] كحال المعترض مع المستدل ، فهو يمنعه الدلالة حتى يثبتها ، لا أنه يقيم دليلا على نفي ما ادعاه ، وهذا غير حال المعارض ، فالمعارض لون والمعترض لون ، فالمعترض يمنع دلالة [ ص: 256 ] الدليل ، والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلا على نقيضه .

وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه ، قالوا : لأنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه .

[ استصحاب الوصف المثبت للحكم ]

ثم النوع الثاني استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه ، وهو حجة ، كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدث واستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وشغل الذمة بما تشغل به حتى يثبت خلاف ذلك ، وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد " وإن وجدته غريقا فلا تأكله ، فإنك لا تدري : الماء قتله أو سهمك " وقوله : " وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره " لما كان الأصل في الذبائح التحريم وشك هل وجد الشرط المبيح أم لا ؟ بقي الصيد على أصله في التحريم ، ولما كان الماء طاهرا فالأصل بقاؤه على طهارته ولم يزلها بالشك ، ولما كان الأصل بقاء المتطهر على طهارته لم يأمره بالوضوء مع الشك في الحدث ، بل قال : " لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " ، ولما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمته أمر الشاك أن يبني على اليقين ويطرح الشك ، ولا يعارض هذا رفعه للنكاح المتيقن بقول الأمة السوداء إنها أرضعت الزوجين ، فإن أصل الأبضاع على التحريم ، وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية ، وقد عارض هذا الظاهر ظاهر مثله أو أقوى منه وهو الشهادة ، فإذا تعارضا تساقطا وبقي أصل التحريم لا معارض له ، فهذا الذي حكم به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو عين الصواب ومحض القياس ، وبالله التوفيق .

ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع ، وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذب المسألة أصلين متعارضين .

مثاله أن مالكا منع الرجل إذا شك هل أحدث أم لا من الصلاة حتى يتوضأ ; لأنه وإن كان الأصل بقاء الطهارة فإن الأصل بقاء الصلاة في ذمته ، فإن قلتم : لا نخرجه من الطهارة بالشك ، قال مالك : ولا ندخله في الصلاة بالشك ، فيكون قد خرج منها الشك ، فإن قلتم : يقين الحدث قد ارتفع بالوضوء فلا يعود بالشك ، قال منازعهم : ويقين البراءة الأصلية قد ارتفع بالوجوب فلا يعود بالشك ، قالوا : والحديث الذي تحتجون به من أكبر حججنا ، فإنه منع المصلي بعد دخوله في الصلاة بالطهارة المتيقنة أن يخرج منها بالشك ، فأين هذا من تجويز الدخول فيها بالشك ؟

ومن ذلك لو شك هل طلق واحدة أو ثلاثا فإن مالكا يلزمه بالثلاث ; لأنه تيقن طلاقا وشك هل هو مما تزيل أثره الرجعة أم لا ؟ وقول الجمهور في هذه المسألة أصح ، فإن النكاح متيقن فلا يزول بالشك ولم يعارض يقين [ ص: 257 ] النكاح إلا شك محض فلا يزول به ، وليس هذا نظير الدخول في الصلاة بالطهارة التي شك في انتقاضها ، فإن الأصل هناك شغل الذمة وقد وقع الشك في فراغها ، ولا يقال هنا : إن الأصل التحريم بالطلاق وقد شككنا في الحل ، فإن التحريم قد زال بنكاح متيقن وقد حصل الشك في ما يرفعه ، فهو نظير ما لو دخل في الصلاة بوضوء متيقن ثم شك في زواله ، فإن قيل : هو متيقن للتحريم بالطلاق شاك في الحل بالرجعة ، فكان جانب التحريم أقوى ، قيل : ليست الرجعية بمحرمة ، وله أن يخلو بها ، ولها أن تتزين له وتتعرض له ، وله أن يطأها ، والوطء رجعة عند الجمهور ، وإنما خالف في ذلك الشافعي وحده ، وهي زوجته في جميع الأحكام إلا في القسم خاصة ، ولو سلم أنها محرمة فقولكم " إنه متيقن للتحريم " إن أردتم به التحريم المطلق فإنه غير متيقن ، وإن أردتم به مطلق التحريم لم يستلزم أن يكون بثلاث ، فإن مطلق التحريم أعم من أن يكون بواحدة أو يكون بثلاث ، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص ، وهذا في غاية الظهور .

فصل [ استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع ]

القسم الثالث : استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع وقد اختلف فيه الفقهاء والأصوليون هل هو حجة ؟ على قولين :

أحدهما : أنه حجة ، وهو قول المزني والصيرفي وابن شاقلا وابن حامد وأبي عبد الله الرازي .

والثاني : ليس بحجة ، وهو قول أبي حامد وأبي الطيب الطبري والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب والحلواني وابن الزاغوني ، وحجة هؤلاء أن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة ، فأما بعد الرؤية فلا إجماع ، فليس هناك ما يستصحب ، إذ يمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع ، والاستصحاب إنما يكون لأمر ثابت فيستصحب ثبوته ، أو لأمر منتف فيستصحب نفيه ، قال الأولون : غاية ما ذكرتم أنه لا إجماع في محل النزاع ، وهذا حق ، ونحن لم ندع الإجماع في محل النزاع ، بل استصحبنا حال المجمع عليه حتى يثبت ما يزيله ، قال الآخرون : الحكم إذا كان إنما ثبت بإجماع ، وقد زال الإجماع ، زال الحكم بزوال دليله ، فلو ثبت الحكم بعد ذلك لثبت بغير دليل .

وقال المثبتون : الحكم كان ثابتا ، وعلمنا بالإجماع ثبوته ، فالإجماع ليس هو علة ثبوته ولا سبب ثبوته في نفس الأمر حتى يلزم من زوال العلة زوال معلولها ، ومن زوال السبب زوال حكمه ، وإنما الإجماع دليل عليه ، وهو في نفس الأمر مستند إلى نص أو معنى نص ، فنحن نعلم أن الحكم المجمع عليه ثابت في نفس الأمر ، والدليل لا ينعكس ، فلا يلزم من انتفاء الإجماع [ ص: 258 ] انتفاء الحكم ، بل يجوز أن يكون باقيا ويجوز أن يكون منتفيا ، لكن الأصل بقاؤه ، فإن البقاء لا يفتقر إلى سبب حادث ، ولكن يفتقر إلى بقاء سبب ثبوته ، وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يزيل الحكم الأول ، وإلى ما يحدث الثاني ، وإلى ما ينفيه ، فكان ما يفتقر إليه الحادث أكثر مما يفتقر إليه الباقي ، فيكون البقاء أولى من التغير ، وهذا مثل استصحاب حال براءة الذمة ، فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يظن به أنه شاغل ، ومع هذا فالأصل البراءة ، والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة .

ومن لا يجوز الاستدلال به إلا بعد معرفة المزيل فلا يجوز الاستدلال به لمن لم يعرف الأدلة الناقلة ، كما لا يجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن يعرف الأدلة الناقلة .

وبالجملة فالاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل ، فإن قطع المستدل بانتفاء الناقل قطع بانتفاء الحكم ، كما يقطع ببقاء شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها غير منسوخة ، وإن ظن انتفاء الناقل أو ظن انتفاء دلالته ظن انتفاء النقل ، وإن كان الناقل معنى مؤثرا وتبين له عدم اقتضائه تبين له انتفاء النقل ، مثل رؤية الماء في الصلاة لا تنقض الوضوء ، وإلا فمع تجويزه لكونه ناقضا للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء ، وكذا كل من وقع النزاع في انتقاض وضوئه ووجوب الغسل عليه فإن الأصل بقاء طهارته ، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين ، وبالخارج النادر منهما ، وبمس النساء بشهوة وغيرها ، وبأكل ما مسته النار ، وغسل الميت ، وغير ذلك ، لا يمكنه اعتقاد استصحاب الحال فيه حتى يتيقن له بطلان ما يوجب الانتقال ، وإلا بقي شاكا ، وإن لم يتبين له صحة الناقل - كما لو أخبره فاسق بخبر - فإنه مأمور بالتبين والتثبت ، لم يؤمر بتصديقه ولا بتكذيبه فإن كليهما ممكن منه ، وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال كما كان يستدل به بدون خبره ، ولهذا جعل لوثا وشبهة ، وإذا شهد مجهول الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد ، ويلزم منه الشك في حال المشهود به ، فإذا تبين كونه عدلا تم الدليل ، وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما تضعف عند شهادة الفاسق ، فإنه في الشاهد قد يكون دليلا ولكن لا تعرف دلالته ، وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بدليل ، لكن يمكن وجود المدلول عليه في هذه الصورة ، فإن صدقه ممكن .

فصل [ الدليل على أنه حجة ]

ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة أن تبدل حال المحل المجمع على حكمه أولا كتبدل زمانه ومكانه وشخصه ، وتبدل هذه الأمور وتغيرها لا [ ص: 259 ] يمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدل ، فكذلك تبدل وصفه وحاله لا يمنع الاستصحاب حتى يقوم دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلا للحكم مثبتا لضده ، كما جعل الدباغ ناقلا لحكم نجاسة الجلد ، وتخليل الخمر ناقلا للحكم بتحريمها ، وحدوث الاحتلام ناقلا لحكم البراءة الأصلية ، وحينئذ فلا يبقى التمسك بالاستصحاب صحيحا ، وأما مجرد النزاع فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع ، والنزاع في رؤية الماء في الصلاة وحدوث العيب عند المشتري واستيلاد الأمة لا يوجب رفع ما كان ثابتا قبل ذلك من الأحكام ، فلا يقبل قول المعترض : إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع الحادث ، فإن النزاع لا يرفع ما ثبت من الحكم ، فلا يمكن المعترض رفعه إلا أن يقيم دليلا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلا على نقل الحكم ، وحينئذ فيكون معارضا في الدليل لا قادحا في الاستصحاب ، فتأمله فإنه التحقيق في هذه المسألة .

التالي السابق


الخدمات العلمية