فصل [ 
الأصلي في الشروط الصحة أو الفساد ؟ ] 
الخطأ الرابع لهم : اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة ، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه ، فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل . وجمهور الفقهاء على خلافه ، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه ، وهذا القول هو الصحيح فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله ، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ، ولا دين إلا ما شرعه ، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم . 
والفرق بينهما أن الله - سبحانه - لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله ، فإن العبادة حقه على عباده ، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه ، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ، ولهذا نعى الله - سبحانه - على المشركين مخالفة هذين الأصلين - وهو تحريم ما لم يحرمه ، والتقرب إليه بما لم يشرعه - وهو - سبحانه - لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله ، فإن الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرمه ، وما سكت عنه فهو عفو ، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا  
[ ص: 260 ] يجوز القول بتحريمها ، فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال ، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه ؟ وقد أمر الله - تعالى - بالوفاء بالعقود والعهود كلها ، فقال - تعالى - : { 
وأوفوا بالعهد   } وقال : { 
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود   } وقال : { 
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون   } وقال - تعالى - : { 
والموفون بعهدهم إذا عاهدوا   } وقال - تعالى - : { 
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون   } وقال : { 
بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين   } وقال : { 
إن الله لا يحب الخائنين   } وهذا كثير من القرآن . 
وفي صحيح 
 nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم  من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش  عن 
عبد الله بن مرة  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=17073مسروق  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=839أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ، إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر   } وفيه من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة  عن النبي صلى الله عليه وسلم : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=21646من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان   } وفي الصحيحين من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر  عن النبي صلى الله عليه وسلم : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=22489يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان   } وفيهما من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=27عقبة بن عامر  عن النبي صلى الله عليه وسلم : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=22418إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج   } وفي سنن 
أبي داود  عن 
أبي رافع  قال : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=25531بعثني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام ، فقلت : يا رسول الله ، والله إني لا أرجع إليهم أبدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا أخيس بالعهد ، ولا أحبس البرد ، ولكن ارجع إليهم ، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال : فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت ،   } وفي صحيح 
 nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم  عن { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=22591 nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة  قال : ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل  فأخذنا كفار قريش  فقالوا : إنكم تريدون محمدا  فقلنا : ما نريده ، ما نريد إلا المدينة  ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة  ولا نقاتل معه ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر ، فقال : انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم   } وفي سنن 
أبي داود  عن 
عبد الله بن عامر  قال : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=22869دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها ، فقالت : تعال أعطك ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أردت أن تعطيه ؟ فقالت : أعطيه تمرا ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة   } . 
وفي صحيح 
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  من حديث 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة    { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=22468عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله - عز وجل - : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة :  [ ص: 261 ] رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره   } . { 
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم  nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب  أن يوفي بالنذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام  وهذا عقد كان قبل الشرع   } . 
وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16472ابن وهب    : ثنا 
 nindex.php?page=showalam&ids=17241هشام بن سعد  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم    { 
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وأي المؤمن واجب   } قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16472ابن وهب    : وأخبرني 
 nindex.php?page=showalam&ids=12434إسماعيل بن عياش  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11813أبي إسحاق    { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=6198أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ولا تعد أخاك عدة وتخلفه ، فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة   } قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=16472ابن وهب    : وأخبرني 
 nindex.php?page=showalam&ids=15124الليث بن سعد  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=16581عقيل بن خالد  عن 
ابن شهاب  عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=3817من قال لصبي تعال هذا لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة   } وفي السنن من حديث 
كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف  عن أبيه عن جده يرفعه : { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=15091المؤمنون عند شروطهم   } وله شاهد من حديث 
محمد بن عبد الرحمن البيلماني  عن أبيه عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر  يرفعه { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=15305الناس على شروطهم ما وافق الحق   } وليست العمدة على هذين الحديثين ، بل على ما تقدم . 
فصل [ أجوبة المانعين ] 
وأصحاب القول الآخر يجيبون عن هذه الحجج : تارة بنسخها ، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط ، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه ، وتارة بمعارضتها بنصوص أخر ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=34220ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق   } " وكقوله { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=36820من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد   } وكقوله - تعالى - : { 
ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون   } ونظائر هذه الآية . 
قالوا : فصح بهذه النصوص إبطال كل عهد وعقد ووعد وشرط ليس في كتاب الله الأمر به أو النص على إباحته ، قالوا : وكل شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن فيه فإنه لا يخلو من أحد وجوه أربعة : إما أن يكون صاحبه قد التزم فيه إباحة ما حرم الله ورسوله ، أو تحريم ما أباحه ، أو إسقاط ما أوجبه ، أو إيجاب ما أسقطه ، ولا خامس لهذه الأقسام ألبتة ، فإن ملكتم المشترط والمعاقد والمعاهد جميع ذلك انسلختم من الدين ، وإن ملكتموه البعض دون البعض تناقضتم ، وسألناكم ما الفرق بين ما يملكه من ذلك وما لا يملكه ؟ ولن تجدوا إليه سبيلا  
[ ص: 262 ] 
فصل [ رد الجمهور على أجوبة المانعين ] 
قال الجمهور : أما دعواكم النسخ فإنها دعوى باطلة تتضمن أن هذه النصوص ليست من دين الله ، ولا يحل العمل بها ، وتجب مخالفتها ، وليس معكم برهان قاطع بذلك ، فلا تسمع دعواه ، وأين التجاؤكم إلى الاستصحاب والتسبب به ما أمكنكم ؟ . 
وأما تخصيصها فلا وجه له ، وهو يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم ، وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسوله . 
وأما ضعف بعضها من جهة السند فلا يقدح في سائرها ، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة . 
وأما معارضتها بما ذكرتم فليس بحمد الله بينها وبينه تعارض ، وهذا إنما يعرف بعد معرفة المراد بكتاب الله في قوله : " ما كان من شرط ليس في كتاب الله " ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعا ، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن ، بل علمت من السنة ، فعلم أن المراد بكتاب الله حكمه كقوله : { 
كتاب الله عليكم   } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=28566  : كتاب الله القصاص في كسر السن   } فكتابه - سبحانه - يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله ، ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلا ، فإذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد حكم بأن الولاء للمعتق ، فشرط خلاف ذلك يكون شرطا مخالفا لحكم الله ، ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلا حراما ؟ وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله الله أو إباحة ما حرمه أو إسقاط ما أوجبه ، لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه ، بل تحريمه هو نفي تعدي حدوده . 
وأما ما ذكرتم من تضمن الشرط لأحد تلك الأمور الأربعة ففاتكم قسم خامس وهو الحق ، وهو ما أباح الله - سبحانه - للمكلف تنويع أحكامه بالأسباب التي ملكه إياها ، فيباشر من الأسباب ما يحله له بعد أن كان حراما عليه ، أو يحرمه عليه بعد أن كان حلالا له ، أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبا ، أو يسقط [ وجوبه ] بعد وجوبه ، وليس في ذلك تغيير لأحكامه ، بل كل ذلك من أحكامه ، فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط ، وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا ، فكما أن شراء الأمة ونكاح المرأة يحل له ما كان حراما عليه قبله وطلاقها وبيعها بالعكس يحرمها عليه ويسقط عنه ما كان واجبا عليه من حقوقها ، كذلك التزامه بالعقد والعهد والنذر والشرط ، فإذا ملك تغيير  
[ ص: 263 ] الحكم بالعقد ملكه بالشرط الذي هو تابع له ، وقد قال - تعالى - : { 
إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم   } فأباح التجارة التي تراضى بها المتبايعان ، فإذا تراضيا على شرط لا يخالف حكم الله جاز لهما ذلك ، ولا يجوز إلغاؤه وإلزامهما بما لم يلتزماه ولا ألزمهما الله ولا رسوله به ، ولا يجوز إلزامهما بما لم يلزمهما الله ورسوله به ولا هما التزماه ، ولا إبطال ما شرطاه مما لم يحرم الله ورسوله عليهما شرطه ، ومحرم الحلال كمحلل الحرام ، فهؤلاء ألغوا من شروط المتعاقدين ما لم يلغه الله ورسوله ، وقابلهم آخرون من القياسيين فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه الله ورسوله ، وكلا القولين خطأ ، بل الصواب إلغاء كل شرط خالف حكم الله ، واعتبار كل شرط لم يحرمه الله ولم يمنع منه ، وبالله التوفيق 
.