صفحة جزء
فصل [ ميراث الجد مع الإخوة ]

المسألة السادسة : ميراث الجد مع الإخوة والقرآن يدل لقول الصديق ومن معه من الصحابة كأبي موسى وابن عباس وابن الزبير وأربعة عشر منهم رضي الله عنهم ، ووجه دلالة القرآن على هذا القول قوله تعالى : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } إلى آخر الآية ، فلم يجعل للإخوة ميراثا إلا في الكلالة .

وقد اختلف الناس في الكلالة ، والكتاب يدل على قول الصديق أنها ما عدا الوالد والولد ، فإنه - سبحانه - قال في ميراث ولد الأم : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس } فسوى بين ميراث الإخوة في الكلالة ، وإن فرق بينهم في جهة الإرث ومقداره ، فإذا كان وجود الجد مع الإخوة للأم لا يدخلهم في الكلالة ، بل يمنعهم من صدق اسم الكلالة على الميت أو عليهم أو على القرابة ، فكيف أدخل ولد الأب في الكلالة ولم يمنعهم وجوده صدق اسمها ؟ وهل هذا إلا تفريق محض بين ما جمع الله بينه ؟

يوضحه الوجه الثاني : وهو أن ولد الولد يمنع الإخوة من الميراث ، ويخرج المسألة عن كونها كلالة ، لدخوله في قوله : { ليس له ولد } ونسبة أب الأب إلى الميت كنسبة ولد ولده إليه ، فكما أن الولد وإن نزل يخرج المسألة عن الكلالة فكذلك أب الأب وإن علا ، ولا فرق بينهما ألبتة .

يوضحه الوجه الثالث : [ وهو ] أن نسبة الإخوة إلى الجد كنسبة الأعمام إلى أبي الجد ، فإن الأخ ابن الأب والعم ابن الجد ، فإذا خلف عمه وأبا جده فهو كما لو خلف أخاه وجده سواء ، وقد أجمع المسلمون على تقديم أب الجد على العم ، فكذلك يجب تقديم الجد على الأخ ، وهذا من أبين القياس وإن لم يكن هذا قياسا جليا فليس في الدنيا قياس جلي ،

يوضحه الوجه الرابع : وهو أن نسبة ابن الأخ إلى الأخ كنسبة أب الجد إلى الجد ، [ ص: 283 ] فإذا قال الأخ : أنا أرث مع الجد لأني ابن أب الميت والجد أبو أبيه فكلانا في القرب إليه سواء ، صاح ابن الأخ مع أب الجد وقال : أنا ابن ابن أب الميت فكيف حرمتموني مع أبي أبي أبيه ودرجتنا واحدة ؟ وكيف سمعتم قول أبي مع الجد ولم تسمعوا قولي مع أبي الجد ؟ فإن قيل : أبو الجد جد وإن علا ، وليس ابن الأخ أخا .

قيل : فهذا حجة عليكم ; لأنه إذا كان أبو الأب أبا ، و [ أبو ] الجد جدا ، فما للإخوة ميراث مع الأب بحال .

فإن قلتم : نحن نجعل أبا الجد جدا ، ولا نجعل أبا الأب أبا .

قيل : هكذا فعلتم ، وفرقتم بين المتماثلين ، وتناقضتم أبين تناقض ، وجعلتموه أبا في موضع وأخرجتموه عن الأبوة في موضع .

يوضحه الوجه الخامس : وهو أن نسبة الجد إلى الأب في العمود الأعلى كنسبة ابن الابن إلى الابن في العمود الأسفل ، فهذا أبو أبيه ، وهذا ابن ابنه ، فهذا يدلي إلى الميت بأب الميت ، وهذا يدلي إليه بابنه ، فكما كان ابن الابن ابنا فكذلك يجب أن يكون أبو الأب أبا ، فهذا هو الاعتبار الصحيح من كل وجه وهذا معنى قول ابن عباس : ألا يتقي الله زيد ؟ يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا ؟

يوضحه الوجه السادس : [ وهو ] أن الله - سبحانه - سمى الجد أبا في قوله : { ملة أبيكم إبراهيم } وقوله : { كما أخرج أبويكم من الجنة } وقوله : { أنتم وآباؤكم الأقدمون } وقول يوسف : { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } وفي حديث المعراج { هذا أبوك آدم وهذا أبوك إبراهيم } { وقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود من أبوكم ؟ قالوا : فلان ، قال : كذبتم ، بل أبوكم فلان قالوا : صدقت } .

وسمى ابن الابن ابنا كما في قوله : { يا بني آدم } و : { يا بني إسرائيل } وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا } والأبوة والبنوة من الأمور المتلازمة المتضايفة يمتنع ثبوت أحدهما بدون الآخر ، فيمتنع ثبوت البنوة لابن الابن إلا مع ثبوت الأبوة لأب الأب .

يوضحه الوجه السابع : وهو أن الجد لو مات ورثه بنو بنيه دون إخوته باتفاق الناس ، فهكذا الأب إذا مات يرثه أبو أبيه دون إخوته ، وهذا معنى قول عمر لزيد : كيف يرثني أولاد [ ص: 284 ] عبد الله دون إخوتي ولا أرثهم دون إخوتهم ؟ ، فهذا هو القياس الجلي والميزان الصحيح الذي لا مغمز فيه ولا تطفيف .

يوضحه الوجه الثامن : [ وهو ] أن قاعدة الفرائض وأصولها إذا كان قرابة المدلي من الواسطة من جنس قرابة الواسطة كان أقوى مما إذا اختلف جنس القرابتين ، مثال ذلك أن الميت يدلي إليه ابنه بقرابة البنوة ، وأبوه يدلي إليه بقرابة الأبوة ، فإذا أدلى إليه واحد ببنوة البنوة وإن بعدت كان أقوى ممن يدلي إليه بقرابة بنوة الأبوة وإن قربت ، فكذلك قرابة أبوة الأبوة وإن علت أقوى من قرابة بنوة الأب وإن قربت ، وقد ظهر اعتبار هذا في تقديم جد الجد وإن علا على ابن الأخ وإن قرب وعلى العم ; لأن القرابة التي يدلي بها الجد من جنس واحد وهي الأبوة ، والقرابة التي يدلي بها الأخ وبنوه من جنسين وهي بنوة الأبوة ، ولهذا قدمت قرابة ابن الأخ على قرابة ابن الجد ; لأنها قرابة بنوة أب ، وتلك قرابة بنوة أبي أب ، فبين ابن الأخ فيها وبين الميت جنس واحد وهي الأخوة ، فبواسطتها وصل إليه ، بخلاف العم فإن بينه وبينه جنسين أحدهما الأبوة والثاني بنوتها ، وعلى هذه القاعدة بناء باب العصبات .

يوضحه الوجه التاسع : وهو أن كل بني أب أدنى وإن بعدوا عن الميت يقدمون في التعصيب على بني الأب الأعلى وإن كانوا أقرب إلى الميت ، فابن ابن ابن الأخ يقدم على العم القريب ، وابن ابن ابن العم وإن نزل يقدم على عم الأب ، وهذا مما يبين أن الجنس الواحد يقوم أقصاه مقام أدناه ، ويقدم الأقصى على من يقدم عليه الأدنى ، فيقدم ابن ابن الابن على من يقدم العم ، فما بال أب الأب وحده خرج من هذه القاعدة ولم يقدم على من يقدم عليه الأب ؟

وبهذا يظهر بطلان تمثيل الأخ والجد بالشجرة التي خرج منها غصنان والنهر الذي خرج منه ساقيتان ، فإن القرابة التي من جنس واحد أقوى من القرابة المركبة من جنسين ، وهذه القرابة البسيطة مقدمة على تلك المركبة بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار الصحيح ، ثم قياس القرابة على القرابة والأحكام الشرعية على مثلها أولى من قياس قرابة الآدميين على الأشجار والأنهار مما ليس في الأصل حكما شرعيا ، ثم نقول : بل النهر الأعلى أولى بالجدول من الجدول التي اشتق منه ، وأصل الشجرة أولى بغصنها من الغصن الآخر ، فإن هذا صنوه ونظيره الذي لا يحتاج إليه ، وذلك أصله وحامله الذي يحتاج إليه ، واحتياج الشيء إلى أصله أقوى من احتياجه إلى نظيره ، فأصله أولى به من نظيره .

يوضحه الوجه العاشر : [ وهو ] أن هذا القياس لو كان صحيحا لوجب طرده ، ولما [ ص: 285 ] انتقض ، فإن طرده تقديم الإخوة على الجد ، فلما اتفق المسلمون على بطلان طرده علم أنه فاسد في نفسه .

يوضحه الوجه الحادي عشر : [ وهو ] أن الجد يقوم مقام الأب في التعصيب في كل صورة من صوره ، ويقدم على كل عصبة يقدم عليه الأب ، فما الذي أوجب استثناء الإخوة خاصة من هذه القاعدة ؟

يوضحه الوجه الثاني عشر : [ وهو ] أنه إن كان الموجب لاستثنائهم قوتهم وجب تقديمهم عليه ، وإن كان مساواتهم له في القرب وجب اعتبارها في بنيهم وآبائه لاشتراكهم في السبب الذي اشترك فيه هو والإخوة ، وهذا ما لا جواب لهم عنه .

يوضحه الوجه الثالث عشر : وهو أنه قد اتفق الناس على أن الأخ لا يساوي الجد ، فإن لهم قولين :

أحدهما : تقديمه عليه .

والثاني : توريثه معه ، والمورثون لا يجعلونه كأخ مطلقا ، بل منهم من يقاسم به الإخوة إلى الثلث ، ومنهم من يقاسمهم به إلى السدس ، فإن نقصته المقاسمة عن ذلك أعطوه إياه فرضا وأدخلوا النقص عليهم أو حرموهم ، كزوج وأم وجد وأخ ، فلو كان الأخ مساويا للجد وأولى منه كما ادعى المورثون أنه القياس لساواه في هذا السدس وقدم عليه ، فعلم أن الجد أقوى ، وحينئذ فقد اجتمع عصبتان وأحدهما أقوى من الآخر فيقدم عليه .

يوضحه الوجه الرابع عشر : [ وهو ] أن المورثين للإخوة لم يقولوا في التوريث قولا يدل عليه نص ولا إجماع ولا قياس مع تناقضهم .

وأما المقدمون له على الإخوة فهم أسعد الناس بالنص والإجماع والقياس وعدم التناقض ، فإن من المورثين من يزاحم به إلى الثلث ، ومنهم من يزاحم به إلى السدس ، وليس في الشريعة من يكون عصبة يقاسم عصبة نظيره إلى حد ثم يفرض له بعد ذلك الحد ، فلم يجعلوه معهم عصبة مطلقا ، ولا ذا فرض مطلقا ، ولا قدموه عليهم مطلقا ، ولا ساووه بهم مطلقا ، ثم فرضوا له سدسا أو ثلثا بغير نص ولا إجماع ولا قياس ثم حسبوا عليه الإخوة من الأب ولم يعطوهم شيئا إذا كان هناك إخوة لأبوين ، ثم جعلوا الأخوات معه عصبة إلا في صورة واحدة فرضوا فيها للأخت ، ثم لم يهنوها بما فرضوا لها ، بل عادوا عليها بالإبطال فأخذوه وأخذوا ما أصابه فقسموه بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ، ثم أعالوا هذه المسألة خاصة من مسائل الجد والإخوة ، ولم يعيلوا غيرها ، ثم ردوها بعد العول إلى التعصيب وسلم المقدمون له على الإخوة من هذا كله مع فوزهم بدلالة الكتاب والسنة والقياس ودخولهم في حزب الصديق .

[ ص: 286 ] يوضحه الوجه الخامس عشر : [ وهو ] أن الصديق لم يختلف عليه أحد من الصحابة في عهده أنه مقدم على الإخوة ، قال البخاري في صحيحه في باب ميراث الجد مع الإخوة : وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير : الجد أب ، وقرأ ابن عباس : { يا بني آدم } { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب } ولم يذكر أن أحدا خالف أبا بكر في زمانه ، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون .

وقال ابن عباس : يرثني ابن ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابن ابني ؟ ، ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أقاويل مختلفة ، انتهى .

وقال عبد الرزاق : ثنا ابن جريج قال : سمعت ابن أبي مليكة يحدث { أن ابن الزبير كتب إلى أهل العراق إن الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذا خليلا حتى ألقى الله سوى الله لاتخذت أبا بكر خليلا } كان يجعل الجد أبا .

وقال الدارمي في صحيحه : ثنا سالم بن إبراهيم ثنا وهيب ثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس { قال : جعله الذي قال : له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كنت متخذا خليلا لاتخذته خليلا ولكن أخوة الإسلام أفضل ، } يعني أبا بكر جعله أبا ، ثنا محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة قال : لقيت مروان بن الحكم بالمدينة فقال : يا ابن أبي موسى ألم أخبر أن الجد لا ينزل فيكم منزلة الأب وأنت لا تنكر ؟ قال : قلت : لو كنت أنت لم تنكر ، قال مروان فأنا أشهد على عثمان بن عفان أنه شهد على أبي بكر أنه جعل الجد أبا إذا لم يكن دونه أب .

ثنا يزيد بن هارون ثنا أشعث عن عروة عن الحسن قال : إن الجد قد مضت فيه سنة ، وإن أبا بكر جعل الجد أبا ، ولكن الناس تحيروا .

وقال حماد بن سلمة : ثنا هشام بن عروة عن عروة عن مروان قال لي عثمان بن عفان إن عمر قال لي : إني قد رأيت في الجد رأيا ، فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه ، فقال عثمان : إن نتبع رأيك فهو رشد ، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان ، قال : وكان أبو بكر يجعله أبا والمورثون للإخوة بعدهم عمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود ، فأما عمر فإن أقواله اضطربت فيه ، وكان قد كتب كتابا في ميراثه ، فلما طعن دعا به فمحاه .

وقال الخشني : عن محمد بن يسار عن محمد بن أبي عدي عن شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : قال عمر حين طعن : إني لم أقض في الجد شيئا .

وقال وكيع : عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : مات ابن لابن عمر بن الخطاب ، فدعا زيد بن ثابت فقال : شعب ما كنت تشعب ; لأني أعلم أني أولى به منهم .

وأما علي - كرم الله وجهه - فقال عبد الرزاق : عن معمر ثنا أيوب عن سعيد بن جبير عن رجل من مراد قال : سمعت عليا يقول : من سره أن يتقحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة .

وأما عثمان وابن مسعود فقال البغوي : ثنا حجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة [ ص: 287 ] أخبرنا الليث بن أبي سليم عن طاوس أن عثمان وعبد الله بن مسعود قالا : الجد بمنزلة الأب .

فهذه أقوال المورثين كما ترى قد اختلفت في أصل توريثهم معه ، واضطربت في كيفية التوريث ، وخالفت دلالة الكتاب والسنة والقياس الصحيح ، بخلاف قول الصديق ومن معه .

يوضحه الوجه السادس عشر : [ وهو ] أن الناس اليوم قائلان : قائل بقول أبي بكر وقائل بقول زيد ، ولكن قول الصديق هو الصواب وقول زيد بخلافه ، فإنه يتضمن تعصيب الجد للأخوات وهو تعصيب الرجل جنسا آخر ليسوا من جنسه ، وهذا أصل له في الشريعة ، إنما يعرف في الشريعة تعصيب الرجال للنساء إذا كانوا من جنس واحد كالبنين والبنات والإخوة والأخوات ، ولا ينتقض هذا بالأخوات مع البنات فإن الرجال لم يعصبوهن ، وإنما عصبهن البنات ، ولما كان تعصيب البنين أقوى كان الميراث لهم دون الأخوات ، بخلاف قول من عصب الأخوات بالجد ، فإنه عصبهن بجنس آخر أقوى تعصيبا منهن ، وهذا لا عهد به في الشريعة ألبتة .

يوضحه الوجه السابع عشر : [ وهو ] أن الجد والإخوة لو اجتمعوا في التعصيب لكانوا إما من جنس واحد أو من جنسين ، وكلاهما باطل ، أما الأول فظاهر البطلان لوجهين : أحدهما : اختلاف جهة التعصيب .

والثاني : أنهم لو كانوا من جنس واحد لاستووا في الميراث والحرمان كالإخوة والأعمام وبنيهم إذا انفردوا ، وهذا هو التعصيب المعقول في الشريعة ، وأما الثاني فبطلانه أظهر ، إذ قاعدة الفرائض أن العصبة لا يرثون في المسألة إلا إذا كانوا من جنس واحد ، وليس لنا عصبة من جنسين يرثان مجتمعين قط ، بل هو محال ، فإن العصبة حكمة أن يأخذ ما بقي بعد الفروض ، فإذا كان هذا حكم هذا الجنس وجب أن يأخذ دون الآخر ، وكذلك الجنس الآخر فيفضي أحدهما إلى حرمانهما ، واشتراكهما ممتنع لاختلاف الجنس ، وهذا ظاهر جدا .

يوضحه الوجه الثامن عشر : [ وهو ] أن الجد أب في باب الشهادة وفي باب سقوط القصاص ، وأب في باب المنع من دفع الزكاة إليه ، وأب في باب وجوب إعتاقه على ولد ولده ، وأب في باب سقوط القطع في السرقة ، وأب عند الشافعي في باب الإجبار في النكاح ، وفي باب الرجوع في الهبة ، وفي باب العتق بالملك ، وفي باب الإجبار على النفقة ، وفي باب إسلام ابن ابنه تبعا لإسلامه ، وأب عند الجميع في باب الميراث عند عدم [ ص: 288 ] الأب فرضا وتعصيبا في غير محل النزاع ، فما الذي أخرجه عن أبوته في باب الجد والإخوة ؟ فإن اعتبرنا تلك الأبواب فالأمر في أبوته في محل النزاع ظاهر ، وإن اعتبرنا باب الميراث فالأمر أظهر وأظهر .

يوضحه الوجه التاسع عشر : [ وهو ] أن الذين ورثوا الإخوة معه إنما ورثوهم لمساواة تعصيبه لتعصيبهم ، ثم نقضوا الأصل : فقدموا تعصيبهم على تعصيبه في باب الولاء وأسقطوه بالإخوة لقوة تعصيبهم عندهم ، ثم نقضوا ذلك أيضا فقدموا الجد عليهم في باب ولاية النكاح ، وأسقطوا تعصيبهم بتعصيبه ، وهذا غاية التناقض والخروج عن القياس لا بنص ولا إجماع .

يوضحه الوجه العشرون : وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : { ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر } فإذا خلفت المرأة زوجها وأمها وأخاها وجدها ، فإن كان الأخ أولى رجل ذكر فهو أحق بالباقي ، وإن كانا سواء في الأولوية وجب اشتراكهما فيه ، وإن كان الجد أولى وهو الحق الذي لا ريب فيه فهو أولى به ، وإذا كان الجد أولى رجل ذكر وجب أن ينفرد بالباقي بالنص ، وهذا الوجه كاف وبالله التوفيق .

وليس القصد هذه المسألة بعينها ، بل بيان دلالة النص والاكتفاء به عما عداه ، وأن القياس شاهد وتابع ، لا أنه مستقل في إثبات حكم من الأحكام لم تدل عليه النصوص .

ومن ذلك الاكتفاء بقوله : { كل مسكر خمر } عن إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو في الحكم كما فعله من لم يحسن الاستدلال بالنص .

ومن ذلك الاكتفاء بقوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } عن إثبات قطع النباش بالقياس اسما أو حكما ، إذ السارق يعني في لغة العرب وعرف الشارع سارق ثياب الأحياء والأموات .

ومن ذلك الاكتفاء بقوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } في تناوله لكل يمين منعقدة يحلف بها المسلمون ، من غير تخصيص إلا بنص أو إجماع ، وقد بين ذلك - سبحانه - في قوله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة فهذا كفارتها ، وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات والحلف بأحب القرابات المالية إلى الله وهو العتق ، كما ثبت ذلك عن سنة منهم ولا مخالف لهم من بقيتهم ، وأدخلت فيه الحلف بالبغيض إلى الله وهو الطلاق كما [ ص: 289 ] ثبت ذلك عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة - ولا مخالف له منهم ، فالواجب تحكيم هذا النص العام والعمل بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعا متيقنا على خلافه ، فالأمة لا تجمع على خطأ ألبتة .

ومن ذلك الاكتفاء بقوله صلى الله عليه وسلم { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } في إبطال كل عقد نهى الله ورسوله عنه وحرمه ، وأنه لغو لا يعتد به ، نكاحا كان أو طلاقا أو غيرهما ، إلا أن تجمع الأمة إجماعا معلوما على أن بعض ما نهى الله ورسوله عنه وحرمه من العقود صحيح لازم معتد به غير مردود ، فهي لا تجمع على خطأ ، وبالله التوفيق .

ومن ذلك الاكتفاء لقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } مع قوله صلى الله عليه وسلم : " { وما سكت عنه فهو مما عفا عنه } فكل ما لم يبين الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها ، فإن الله - سبحانه - قد فصل لنا ما حرم علينا ، فما كان من هذه الأشياء حراما فلا بد أن يكون تحريمه مفصلا ، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية