صفحة جزء
فصل [ إزالة النجاسة على وفق القياس ]

وأما إزالة النجاسة فمن قال " إنها على خلاف القياس " فقوله من أبطل الأقوال وأفسدها ، وشبهته أن الماء إذا لاقى نجاسة تنجس بها ، ثم لاقى الثاني والثالث كذلك ، وهلم جرا ، والنجس لا يزيل نجاسة ، وهذا غلط ، فإنه يقال : فلم قلتم : إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة نجس ؟ فإن قلتم : الحكم في بعض الصور كذلك ، قيل : هذا ممنوع عند من يقول : إن الماء لا ينجس إلا بالتغير .

فإن قيل : فيقاس ما لم يتغير على " ما تغير .

قيل : هذا من أبطل القياس حسا وشرعا ، وليس جعل الإزالة مخالفة للقياس بأولى من جعل تنجيس الماء مخالفا للقياس " بل يقال : إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسة لا ينجس ، كما أنه إذا لاقاها حال الإزالة لا ينجس ، فهذا القياس أصح من ذلك القياس ; لأن النجاسة تزول بالماء حسا وشرعا ، وذلك معلوم بالضرورة من الدين بالنص [ ص: 296 ] والإجماع .

وأما تنجيس الماء بالملاقاة فمورد نزاع ، فكيف يجعل مورد النزاع حجة على مواقع الإجماع ؟ والقياس يقتضي رد موارد النزاع إلى مواقع الإجماع ، وأيضا فالذي تقتضيه العقول أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس ، فإنه باق على أصل خلقته ، وهو طيب ، فيدخل في قوله : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لون ولا طعم ولا ريح .

وقد تنازع الفقهاء : هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة إلا ما استثناه الدليل ، أو القياس يقتضي أنه لا ينجس إذا لم يتغير ؟ على قولين ، والأول قول أهل العراق ، والثاني قول أهل الحجاز ، وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ومنهم من يختار هذا .

وقول أهل الحجاز هو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول ، فإن الله - سبحانه - أباح الطيبات وحرم الخبائث ، والطيب والخبيث يثبت للمحل باعتبار صفات قائمة به ، فما دامت تلك الصفة فالحكم تابع لها ، فإذا زالت وخلفتها الصفة الأخرى زال الحكم وخلفه ضده ، فهذا هو محض القياس والمعقول ، فهذا الماء والطعام كان طيبا لقيام الصفة الموجبة لطيبه ، فإذا زالت تلك الصفة وخلفتها صفة الخبث عاد خبيثا ، فإذا زالت صفة الخبث عاد إلى ما كان عليه ، وهذا كالعصير الطيب إذا تخمر صار خبيثا فإذا عاد إلى ما كان عليه عاد طيبا ، والماء الكثير إذا تغير بالنجاسة صار خبيثا فإذا زال التغير عاد طيبا ، والرجل المسلم إذا ارتد صار خبيثا فإذا عاد إلى الإسلام عاد طيبا .

والدليل على أنه طيب الحس والشرع : أما الحس فلأن الخبث لم يظهر له فيه أثر بوجه ما ، لا في لون ولا طعم ولا رائحة ، ومحال صدق المشتق بدون المشتق منه . وأما الشرع فمن وجوه : أحدها أنه كان طيبا قبل ملاقاته لما يتأثر به ، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت رفعه وهذا يتضمن أنواع الاستصحاب الثلاثة المتقدمة : استصحاب براءة الذمة من الإثم بتناوله شربا أو طبخا أو عجنا ، وملابسة استصحاب الحكم الثابت وهو الطهارة ، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع .

الثاني : أنه لو شرب هذا الماء الذي قطرت فيه قطرة من خمر مثل رأس الذبابة لم يحد اتفاقا ، ولو شربه صبي وقد قطرت فيه قطرة من لبن لم تنشر الحرمة ، فلا وجه للحكم بنجاسته لا من كتاب ولا من سنة ولا قياس .

والذين قالوا : " إن الأصل نجاسة الماء بالملاقاة " تناقضوا أعظم تناقض ، ولم يمكنهم طرد هذا الأصل : فمنهم من استثنى مقدار القلتين على خلافهم فيها ، ومنهم من استثنى ما لا يمكن نزحه ، ومنهم من استثنى ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر ، ومنهم [ ص: 297 ] من استثنى الجاري خاصة ، وفرقوا بين ملاقاة الماء في الإزالة إذا ورد على النجاسة وملاقاتها له إذا وردت عليه بفروق : منها أنه وارد على النجاسة فهو فاعل وإذا وردت عليه فهو مورود منفعل وهو أضعف ، ومنها أنه إذا كان واردا فهو جار والجاري له قوة ، ومنها أنه إذا كان واردا فهو في محل التطهير وما دام في محل التطهير فله عمل وقوة ، والصواب أن مقتضى القياس أن الماء لا ينجس إلا بالتغير ، وأنه إذا تغير في محل التطهير فهو نجس أيضا ، وهو في حال تغيره لم يزلها ، وإنما خففها ، ولا تحصل الإزالة المطلوبة إلا إذا كان غير متغير ، وهذا هو القياس في المائعات كلها : أن يسير النجاسة إذا استحالت في الماء ولم يظهر لها فيه لون ولا طعم ولا رائحة فهي من الطيبات لا من الخبائث .

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الماء لا ينجس } وصح عنه أنه قال : { إن الماء لا يجنب } وهما نصان صريحان في أن الماء لا ينجس بالملاقاة ، ولا يسلب طهوريته استعماله في إزالة الحدث ، ومن نجسه بالملاقاة أو سلب طهوريته بالاستعمال فقد جعله ينجس ويجنب ، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في صحيح البخاري أنه { سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : ألقوها وما حولها وكلوه } ولم يفصل بين أن يكون جامدا أو مائعا قليلا أو كثيرا ، فالماء بطريق الأولى يكون هذا حكمه ، وحديث التفريق بين الجامد والمائع حديث معلول ، وهو غلط من معمر من عدة وجوه بينها البخاري في صحيحه والترمذي في جامعه وغيرهما ، ويكفي أن الزهري الذي روى عنه معمر حديث التفصيل قد روى عنه الناس كلهم خلاف ما روى عنه معمر ، وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تلقى وما حولها ويؤكل الباقي في الجامد والمائع والقليل والكثير ، واستدل بالحديث ، فهذه فتياه ، وهذا استدلاله ، وهذه رواية الأئمة عنه ، فقد اتفق على ذلك النص والقياس ، ولا يصلح للناس سواه ، وما عداه من الأقوال فمتناقض لا يمكن صاحبه طرده كما تقدم ، فظهر أن مخالفة القياس فيما خالف النص لا فيما جاء به النص .

التالي السابق


الخدمات العلمية