صفحة جزء
فصل [ الوضوء من لحوم الإبل على وفق القياس ]

وأما قولهم " إن الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس ; لأنها لحم ، واللحم لا يتوضأ منه " فجوابه أن الشارع فرق بين اللحمين ، كما فرق بين المكانين ، وكما فرق بين الراعيين رعاة الإبل ورعاة الغنم فأمر بالصلاة في مرابض الغنم دون أعطان الإبل ، وأمر بالتوضؤ من لحوم الإبل دون الغنم ، كما فرق بين الربا والبيع والمذكى والميتة ، فالقياس الذي يتضمن التسوية بين ما فرق الله بينه من أبطل القياس وأفسده ، ونحن لا ننكر أن في الشريعة ما يخالف القياس بالباطل ، هذا مع أن الفرق بينهما ثابت في نفس الأمر ، كما فرق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم فقال " الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل ، والسكينة في أصحاب الغنم " . وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطان ، وجاء أنها جن خلقت من جن ، ففيها قوة شيطانية ، والغاذي شبيه بالمغتذي ، ولهذا حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ; لأنها دواب عادية ، فالاغتذاء بها يجعل في طبيعة المغتذي من العدوان ما يضره في دينه ، فإذا اغتذى من لحوم الإبل وفيها تلك القوة الشيطانية والشيطان خلق من نار والنار تطفأ بالماء ، هكذا جاء الحديث ، ونظيره الحديث الآخر { إن الغضب من الشيطان ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ } فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في وضوئه ما يطفئ تلك القوة الشيطانية فتزول تلك المفسدة ، ولهذا أمرنا بالوضوء مما مست النار إما إيجابا منسوخا ، وإما استحبابا غير منسوخ .

وهذا الثاني أظهر لوجوه : منها أن النسخ [ ص: 299 ] لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع بين الحديثين ، ومنها أن رواة أحاديث الوضوء بعضهم متأخر الإسلام كأبي هريرة ، ومنها أن المعنى الذي أمرنا بالوضوء لأجله منها هو اكتسابها من القوة النارية وهي مادة الشيطان التي خلق منها والنار تطفأ بالماء ، وهذا المعنى موجود فيها ، وقد ظهر اعتبار نظيره في الأمر بالوضوء من الغضب ، ومنها أن أكثر ما مع من ادعى النسخ أنه ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم {أكل مما مست النار ولم يتوضأ } وهذا إنما يدل على عدم وجوب الوضوء ، لا على عدم استحبابه ، فلا تنافي بين أمره وفعله ، وبالجملة فالنسخ إنما يصار إليه عند التنافي ، وتحقق التاريخ ، وكلاهما منتف وقد يكون الوضوء من مس الذكر ومس النساء من هذا الباب ، لما في ذلك من تحريك الشهوة ، فالأمر بالوضوء منهما على وفق القياس ، ولما كانت القوة الشيطانية في لحوم الإبل لازمة كان الأمر بالوضوء منها لا معارض له من فعل ولا قول ، ولما كان في ممسوس النار عارضة صح فيها الأمر والترك ، ويدل على هذا أنه فرق بينها وبين لحوم الغنم في الوضوء ، وفرق بينها وبين الغنم في مواضع الصلاة ، فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل وأذن في الصلاة في مرابض الغنم ، وهذا يدل على أنه ليس ذلك لأجل الطهارة والنجاسة ، كما أنه لما أمر بالوضوء من لحوم الإبل دون لحوم الغنم علم أنه ليس ذلك لكونها مما مسته النار ، ولما كانت أعطان الإبل مأوى الشيطان لم تكن مواضع للصلاة كالحشوش ، بخلاف مباركها في السفر ، فإن الصلاة فيها جائزة ; لأن الشيطان هناك عارض ، وطرد هذا المنع من الصلاة في الحمام ; لأنه بيت الشيطان .

وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة كلحوم السباع إذا أبيحت للضرورة روايتان ، والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل ، فإذا عقل المعنى لم يكن بد من تعديته ، ما لم يمنع منه مانع ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية