صفحة جزء
فصل [ التيمم جار على وفق القياس ]

ومما يظن أنه على خلاف القياس باب التيمم ، قالوا : إنه على خلاف القياس من وجهين : أحدهما : أن التراب ملوث لا يزيل درنا ولا وسخا ولا يطهر البدن كما لا يطهر الثوب .

والثاني : أنه شرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها ، وهذا خروج عن القياس الصحيح .

ولعمر الله إنه خروج عن القياس الباطل المضاد للدين ، وهو على وفق القياس الصحيح ، فإن الله - سبحانه - جعل من الماء كل شيء حي ، وخلقنا من التراب ، فلنا مادتان : الماء ، والتراب ، فجعل منهما نشأتنا وأقواتنا ، وبهما تطهرنا وتعبدنا ، فالتراب أصل ما خلق منه الناس ، والماء حياة كل شيء ، وهما الأصل في الطبائع التي ركب الله عليهما هذا العالم وجعل قوامه بهما ، وكان أصل ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماء في الأمر المعتاد ، فلم يجز العدول عنه إلا في حال العدم والعذر بمرض أو نحوه ، وكان النقل عنه إلى شقيقه وأخيه التراب أولى من غيره ، وإن لوث ظاهرا فإنه يطهر باطنا ثم يقوي طهارة الباطن فيزيل دنس الظاهر أو يخففه ، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر وانفعاله عنه .

فصل الحكمة في كون التيمم على عضوين :

وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة ، فإن وضع التراب على الرءوس مكروه في العادات ، وإنما يفعل عند المصائب والنوائب ، والرجلان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال ، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم لله والذل له والانكسار [ ص: 301 ] لله ما هو من أحب العبادات إليه وأنفعها للعبد ، ولذلك يستحب للساجد أن يترب وجهه لله ، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد وجعل بينه وبين التراب وقاية فقال " ترب وجهك " وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرجلين .

وأيضا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر ، وهو أن التيمم جعل في العضوين المغسولين ، وسقط عن العضوين الممسوحين ، فإن الرجلين تمسحان في الخف ، والرأس في العمامة ، فلما خفف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو ، إذ لو مسحا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما ، بل كان فيه انتقال من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب ، فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدل الأمور وأكملها ، وهو الميزان الصحيح .

وأما كون تيمم الجنب كتيمم المحدث فلما سقط مسح الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى ، إذ في ذلك من المشقة والحرج والعسر ما يناقض رخصة التيمم ، ويدخل أكرم المخلوقات على الله في شبه البهائم إذا تمرغ في التراب ، فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد في الحسن والحكمة والعدل عليه ، ولله الحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية