فصل : 
[ حمل العاقلة الدية عن الجاني طبق القياس ] . 
ومن هذا الباب قول القائل " 
حمل العاقلة الدية عن الجاني على خلاف القياس " ولهذا لا تحمل العمد ولا العبد ولا الصلح ولا الاعتراف ولا ما دون الثلث ، ولا تحمل جناية الأموال ، ولو كانت على وفق القياس لحملت ذلك كله . 
والجواب أن يقال : لا ريب أن من أتلف مضمونا كان ضمانه عليه ، { 
ولا تزر وازرة وزر أخرى   } ، ولا تؤخذ نفس بجريرة غيرها ; وبهذا جاء شرع الله سبحانه وجزاؤه ، وحمل العاقلة الدية غير مناقض لشيء من هذا كما سنبينه والناس متنازعون في العقل : 
هل تحمل العاقلة ابتداء أو تحملا ؟ على قولين ، كما تنازعوا في 
صدقة الفطر التي يجب أداؤها عن الغير كالزوجة والولد ، هل تجب ابتداء أو تحملا ؟ على قولين ، وعلى ذلك ينبني ما لو أخرجها من تحملت عنه عن نفسه بغير إذن المتحمل لها ; فمن قال هي واجبة على الغير تحملا قال : يجزئ في هذه الصورة ، ومن قال : هي واجبة عليه ابتداء قال : لا تجزئ ، بل هي كأداء الزكاة عن الغير ، وكذلك 
القاتل إذا لم تكن له عاقلة ، هل تجب الدية في ذمة القاتل أو لا ؟ على قولين ، بناء على هذا الأصل ، والعقل فارق غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاصه بالحكم ، وذلك أن دية المقتول مال كثير ، والعاقلة إنما تحمل الخطأ ، ولا تحمل العمد بالاتفاق ، ولا شبهة على الصحيح ، والخطأ يعذر فيه الإنسان ، فإيجاب الدية في ماله فيه ضرر عظيم عليه من غير ذنب تعمده ، وإهدار دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثته ، فلا بد من إيجاب بدله ; فكان من محاسن الشريعة وقيامها  
[ ص: 14 ] بمصالح العباد أن أوجب بدله على من عليه موالاة القاتل ونصرته ، فأوجب عليهم إعانته على ذلك . 
وهذا كإيجاب النفقات على الأقارب وكسوتهم ، وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاح ، وكإيجاب 
فكاك الأسير من بلد العدو   ; فإن هذا أسيف بالدية التي لم يتعمد سبب وجوبها ولا وجبت باختيار مستحقها كالقرض والبيع ، وليست قليلة ; فالقاتل في الغالب لا يقدر على حملها ، وهذا بخلاف العمد ; فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلا أن يحمل عنه بدل القتل ; وبخلاف شبه العمد ; لأنه قاصد للجناية متعمد لها ، فهو آثم معتد ، وبخلاف بدل المتلف من الأموال ; فإنه قليل في الغالب لا يكاد المتلف يعجز عن حمله ، وشأن النفوس غير شأن الأموال ; ولهذا 
لا تحمل العاقلة ما دون الثلث عند الإمام 
 nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد   nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك  لقلته واحتمال الجاني حمله ، وعند 
 nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة  لا تحمل ما دون أقل المقدر كأرش الموضحة وتحمل ما فوقه ، وعند 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  تحمل القليل والكثير طردا للقياس ; وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد فإنه سلعة من السلع ومال من الأموال ، فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان والمتاع ; وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنى آخر ، وهو أن المدعي والمدعى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية ويشتركان فيما تحمله العاقلة ويتصالحان على تغريم العاقلة ، فلا يسري إقراره ولا صلحه ، فلا يجوز إقراره في حق العاقلة ، ولا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة ، وهذا هو القياس الصحيح ; فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودعواه على العاقلة بوجوب المال عليهم ; فلا يقبل ذلك في حقهم ، ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره ، فتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين كأبناء السبيل والفقراء والمساكين . 
وهذا من تمام الحكمة التي بها قيام مصلحة العالم ; فإن الله سبحانه قسم خلقه إلى غني وفقير ، ولا تتم مصالحهم إلا بسد خلة الفقير ، فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد [ به ] خلة الفقراء ، وحرم الربا الذي يضر بالمحتاج ، فكان أمره بالصدقة ونهيه عن الربا أخوين شقيقين ; ولهذا جمع الله بينهما في قوله : { 
يمحق الله الربا ويربي الصدقات   } وقوله : { 
وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون   } وذكر الله سبحانه 
أحكام الناس في الأموال في آخر سورة البقرة ، وهي ثلاثة : عدل ، وظلم ، وفضل ; فالعدل البيع ، والظلم الربا ، والفضل الصدقة ; فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم ، وذم المرابين وذكر عقابهم ، وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى . 
والمقصود أن حمل الدية من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض العباد على بعض  
[ ص: 15 ] كحق المملوك والزوجة والأقارب والضيف ، ليست من باب عقوبة الإنسان بجناية غيره ، فهذا لون ، وذاك لون ، والله الموفق .