صفحة جزء
[ شبهات لنفات القياس وأمثلة لها ]

ولنفات الحكم والتعديل والقياس ها هنا سؤال مشهور ، وهو أن الشريعة قد فرقت بين المتماثلين ، وجمعت بين المختلفين ; فإن الشارع فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمدا ، وهو طاهر ، دون البول والمذي وهو نجس ، وأوجب غسل الثوب من بول الصبية والنضح من بول الصبي مع تساويهما ، ونقص الشطر من صلاة المسافر الرباعية وأبقى الثلاثية والثنائية على حالهما ، وأوجب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها ، وحرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرة وجوزه إلى الأمة الشابة البارعة الجمال ، وقطع سارق ثلاثة دراهم دون مختلس ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها ، ثم جعل ديتها خمسمائة دينار ; فقطعها في ربع دينار ، وجعل ديتها هذا القدر الكبير ، وأوجب حد الفرية على من قذف غيره بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شر منه ، واكتفى في القتل بشاهدين دون الزنا ، والقتل أكبر من الزنا ، وجلد قاذف الحر الفاسق دون العبد العفيف الصالح ، وفرق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما .

وجعل عدة الحرة ثلاث حيض واستبراء الأمة بحيضة والمقصود العلم ببراءة الرحم ، وحرم المطلقة ثلاثا على الزوج المطلق ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره وحالها في الموضعين واحدة ، وأوجب غسل غير الموضع الذي خرجت منه الريح ولم يوجب غسله ، ولم يعتبر توبة القاتل وندمه قبل القدرة عليه واعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه ، وقبل شهادة العبد والمملوك عليه بأنه صلى الله عليه وسلم قال وكذا وكذا ولم يقبل شهادته على آحاد الناس أنه قال : كذا وكذا ، وأوجب الصدقة في السوائم وأسقطها عن العوامل ، وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصن الرجل والأمة البارعة الجمال لا تحصنه ، ونقض الوضوء بمس الذكر دون مس سائر الأعضاء ودون مس العذرة والدم ، وأوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر ولم يوجبه بالأرطال الكثيرة من الدم والبول ، وقصر عدد المنكوحات على أربع وأطلق ملك اليمين من غير حصر ، وأباح للرجل أن يتزوج أربعا ولم يبح للمرأة إلا رجلا واحدا مع وجود الشهوة وقوة الداعي من الجانبين ، وجوز للرجل أن يستمتع من أمته بالوطء وغيره ولم يجوز للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره ، وفرق بين الطلقة الثالثة والثانية في تحريمها على المطلق بالثالثة دون الثانية ، وفرق بين لحم الإبل ولحم البقر [ ص: 41 ] والغنم والجواميس وغيرها فأوجب الوضوء من لحم الإبل وحده ، وفرق بين الكلب الأسود والأبيض في قطع الصلاة بمرور الأسود وحده ، وفرق بين الريح الخارجة من الدبر فأوجب بها الوضوء وبين الجشوة الخارجة من الحلق فلم يوجب بها الوضوء ، وأوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها عن عدة آلاف من الخيل ، وأوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر وفي الزروع والثمار العشر أو نصفه وفي المعدن الخمس ، وأوجب في أول نصاب من الإبل من غير جنسها وفي أول نصاب من البقر والغنم من جنسه ، وقطع يد السارق لكونها آلة المعصية فأذهب العضو الذي تعدى به على الناس ولم يقطع اللسان الذي يقذف به المحصنات الغافلات ولا الفرج الذي يرتكب به المحرم ، وأوجب على الرقيق نصف حد الحر مع أن حاجته إلى الزجر عن المحارم كحاجة الحر ، وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد ألحق به العار ، وجوز للمسافر المترفه في سفره رخصة القصر والفطر دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة في سببه ، وأوجب على كل من نذر لله طاعة الوفاء بها ، وجوز لمن حلف على فعلها أن يتركها ويكفر يمينه ، وكلاهما قد التزم فعلها لله ، وحرم الذئب والقرد وما له ناب من السباع وأباح الضبع على قول ولها ناب تكسر به ، وجعل شهادة خزيمة بن ثابت وحده بشهادتين وغيره من الصحابة أفضل منه وشهادته بشهادة ، ورخص لأبي بردة بن نيار في التضحية بالعناق وقال : لن تجزئ عن أحد بعدك ، وفرق بين صلاة الليل والنهار في السر والجهر ثم شرع الجهر في بعض صلاة النهار كالجمعة والعيدين ، وورث ابن ابن العم وإن بعدت درجته دون الخالة التي هي شقيقة الأم ، وحرم أخذ مال الغير إلا بطيبة من نفسه وسلطه على أخذ عقاره وأرضه بالشفعة ثم شرع الشفعة فيما يمكن التخلص من ضرر الشركة بقسمته دون ما لا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان وهو أولى بالشفعة ، وحرم صوم أول يوم من شوال وفرض صوم آخر يوم من رمضان مع تساوي اليومين ، وحرم على الإنسان نكاح بنت أخيه وأخته وأباح له نكاح بنت أخي أبيه وأخت أمه ، وحمل العاقلة ضمان جناية الخطإ على النفوس دون الجناية على الأموال ، وحرم وطء الحائض لأذى الدم وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى ، ومنع بيع مد حنطة بمد وحفنة ، وجوز بيع مد حنطة بصاع فأكثر من الشعير ; فحرم ربا الفضل في الجنس الواحد دون الجنسين ، ومنع المرأة من الإحداد على أبيها وابنها فوق ثلاثة أيام وأوجب عليها أن تحد على الزوج وهو أجنبي أربعة أشهر وعشرا ، وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والمالية كالوضوء والغسل والصلاة والصوم والزكاة والحج وفي العقوبات كالحدود ثم جعلها على النصف من الرجل في الدية والشهادة [ ص: 42 ] والميراث والعقيقة ، وخص بعض الأزمنة على بعض وبعض الأمكنة على بعض بخصائص مع تساويها ; فجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر ، وجعل شهر رمضان سيد الشهور ، ويوم الجمعة سيد الأيام ، ويوم عرفة ويوم النحر وأيام منى أفضل الأيام ، وجعل مكان البيت أفضل بقاع الأرض . [ كيف يمكن القياس مع الفرق بين المتماثلات ؟ ]

قالوا : وإذا كانت الشريعة قد جاءت بالتفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات - كما جمعت بين الخطإ والعمد في ضمان الأموال ، وفي قتل الصيد ، وجمعت بين العاقل والمجنون والطفل والبالغ في وجوب الزكاة ، وجمعت بين الهرة والفأرة في طهارة كل منهما ، وجمعت بين الميتة وذبيحة المجوسي في التحريم ، وبين ما مات من الصيد أو ذبحه المحرم في ذلك ، وبين الماء والتراب في تطهير - بطل القياس ، فإن مبدأه على هذين الحرفين ، وهما أصل قياس الطرد وقياس العكس . [ الجواب عن هذه الشبهة ] .

والجواب أن يقال : الآن حمي الوطيس ، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله ، وآن لحزب الله أن لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وأن لا يتحيزوا إلى فئة معينة ، وأن ينصروا الله ورسوله بكل قول حق قاله من قاله ، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم وفريقهم كائنا من كان ويردون ما قاله منازعوهم وغير وطائفتهم كائنا ما كان ; فهذه طريقة أهل العصبية وحمية أهل الجاهلية ، ولعمر الله إن صاحب هذه الطريقة لمضمون له الذم إن أخطأ ، وغير ممدوح إن أصاب ، وهذا حال لا يرضى بها من نصح نفسه وهدي لرشده ، والله الموفق .

وجواب هذا السؤال من طريقين مجمل ومفصل : [ الجواب المجمل ]

أما المجمل فهو أن ما ذكرتم من الصوم وأضعافها وأضعاف أضعافها فهو من أبين الأدلة على عظم هذه الشريعة وجلالتها ، ومجيئها على وفق العقول السليمة والفطر المستقيمة ، حيث فرقت بين أحكام هذه الصور المذكورة لافتراقها في الصفات التي اقتضت افتراقها في الأحكام ، ولو ساوت بينها في الأحكام لتوجه السؤال ، وصعب الانفصال ، وقال القائل : قد ساوت بين المختلفات ، وقرنت الشيء إلى غير شبيهه في الحكم ، وما امتازت صورة من تلك الصور بحكمها دون الصورة الأخرى إلا لمعنى قام بها [ ص: 43 ] أوجب اختصاصها بذلك الحكم ، ولا اشتركت صورتان في حكم إلا لاشتراكهما في المعنى المقتضي لذلك الحكم ، ولا يضر افتراقهما في غيره ، كما لا ينفع اشتراك المختلفين في معنى لا يوجب الحكم ; فالاعتبار في الجمع والفرق إنما هو بالمعاني التي لأجلها شرعت تلك الأحكام وجودا وعدما .

وقد اختلفت أجوبة الأصوليين عن هذا السؤال بحسب أفهامهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة ; فأجاب ابن الخطيب عنه بأن قال : غالب أحكام الشريعة معللة برعاية المصالح المعلومة ، والخصم إنما بين خلاف ذلك في صور قليلة جدا ، وورود الصورة النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن ، كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر نادرا لا يقدح في نزول المطر منه .

وهذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع ، وهو جواب أبي الحسين البصري بعينه .

وأجاب عنه أبو الحسن الآمدي بأن التفريق بين الصور المذكورة في الأحكام إما لعدم صلاحية ما وقع جامعا ، أو لمعارض له في الأصل أو في الفرع ، وأما الجمع بين المختلفات فإنما كان لاشتراكهما في معنى جامع صالح للتعليل ، أو لاختصاص كل صورة بعلة صالحة للتعليل ; فإنه لا مانع عند اختلاف الصور وإن اتحد نوع الحكم أن يعلل بعلل مختلفة .

وأجاب عنه أبو بكر الرازي الحنفي بأن قال : لا معنى لهذا السؤال ; فإنا لم نقل بموجب القياس من حيث اشتبهت المسائل في صورها وأعيانها وأسمائها ، ولا أوجبنا المخالفة بينها من حيث اختلفت في الصور والأعيان والأسماء ، وإنما يجب القياس بالمعاني التي جعلت أمارات للحكم وبالأسباب الموجبة له ، فنعتبرها في مواضعها ، ثم لا نبالي باختلافها ولا اتفاقها من وجوه أخر غيرها ، مثال ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم التفاضل في البر بالبر من جهة الكيل وفي الذهب بالذهب من جهة الوزن استدللنا به على أن الزيادة المحظورة معتبرة من جهة الكيل والوزن مع الجنس ; فحيث وجدا أوجبنا تحريم التفاضل وإن اختلفت المبيعات من وجوه أخر ، كالحمص وهو مكيل فحكمه حكم البر من حيث كونه مكيلا وإن خالفه من وجوه أخر ، وكالرصاص وهو موزون فحكمه كحكم الذهب في تحريم التفاضل وإن خالفه في أوصاف أخر ، فمتى عقل المعنى الذي به تعلق الحكم وجعل علامة له ; وجب اعتباره حيث وجد ، كما رجم ماعزا لزناه ، وحكم بإلقاء الفأرة وما حولها لما ماتت في السمن ; فعقلنا عموم المعنى لكل زان وعموم المعنى لكل مائع جاور [ ص: 44 ] النجاسة ، إلا أن المعنى تارة يكون جليا ظاهرا ، وتارة يكون خفيا غامضا ، فيستدل عليه بالدلائل التي نصبها الله عليه .

وأجاب عنه القاضي أبو يعلى بأن قال : العقل إنما يمنع أن يجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفات النفسية كالسواد والبياض ، وأن يفرق بين المثلين فيما تماثلا فيه من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجري مجرى ذلك وأما ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجمع بين المختلفتين في الحكم الواحد ; ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة الحمرة وما يجري مجراها من الألوان ; فإن القعود في الموضع الواحد قد يكون حسنا إذا كان فيه نفع لا ضرر فيه ، وقد يكون قبيحا إذا كان فيه ضرر من غير نفع يوفي عليه وإن كان القعود المقصود في ذلك الموضع متيقنا ، وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحسن بأن يكون في كل منهما نفع لا ضرر فيه وإن كانا مختلفين ، على أن ذلك يؤكد صحة القياس ، وذلك أن المثلين في العقليات إنما وجب تساوي حكمهما ; لأن كل واحد منهما قد ساوى الآخر فيما لأجله قد وجب له الحكم إما لذاته كالسوادين أو لعلة أوجبت ذلك كالأسودين ، وهكذا القول في المختلفين ، وعلى هذه الطريقة بعينها يجري القياس ; لأنا إنما نحكم للفرع بحكم الأصل إذا شاركه في علة الحكم ، كما أن الله تعالى إنما نص على حكم واحد في الشيئين إذا اشتركا فيما أوجب الحكم فيهما ، فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه .

وأجاب عنه القاضي عبد الوهاب المالكي بأن قال : دعواكم بأن هذه الصور التي اختلفت أحكامها متماثلة في نفسها دعوى ، والأمثلة لا تشهد لها ، ألا ترى أنه لا يمتنع أن يتفق الصوم والصلاة في امتناع أدائها من الحائض ويفترقان في وجوب القضاء ، والتماثل في العقليات لا يوجب التساوي في الأحكام الشرعيات .

وأيضا فهذا يوجب منع القياس في العقليات .

وأيضا فإن القياس جائز على العلة المنصوص عليها مع وجود المعنى الذي ذكره .

التالي السابق


الخدمات العلمية