صفحة جزء
فصل [ الحكمة في غسل أعضاء الوضوء ]

وأما إيجابه لغسل المواضع التي لم تخرج منها الريح ، وإسقاطه غسل الموضع الذي خرجت منه ، فما أوفقه للحكمة ، وما أشده مطابقة للفطرة ; فإن حاصل السؤال : لم كان الوضوء في هذه الأعضاء الظاهرة دون باطن المقعدة ، مع أن باطن المقعدة أولى بالوضوء من الوجه واليدين والرجلين ؟ وهذا سؤال معكوس ، من قلب منكوس ; فإن من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة ، وكان أحقها به إمامها ومقدمها في الذكر والفعل وهو الوجه الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب ، وبعده اليدان ، وهما آلة البطش والتناول والأخذ ، فهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه ، ولما كان الرأس مجمع الحواس وأعلى البدن وأشرفه كان أحق بالنظافة ، لكن لو شرع غسله في الوضوء لعظمت المشقة ، واشتدت البلية ، فشرع مسح جميعه ، وأقامه مقام غسله تخفيفا ورحمة ، كما أقام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين .

ولعل قائلا يقول : وما يجزئ مسح الرأس والرجلين من الغسل والنظافة ؟ ولم يعلم هذا القائل أن إمساس العضو بالماء امتثالا لأمر الله وطاعة له وتعبدا يؤثر في نظافته وطهارته ما لا يؤثر غسله بالماء والسدر بدون هذه النية ، والتحاكم في هذا إلى الذوق السليم ، والطبع المستقيم ، كما أن معك الوجه بالتراب امتثالا للآمر وطاعة وعبودية تكسبه وضاءة ونظافة [ ص: 59 ] وبهجة تبدو على صفحاته للناظرين ; ولما كانت الرجلان تمس الأرض غالبا ، وتباشر من الأدناس ما لا تباشره بقية الأعضاء كانت أحق بالغسل ، ولم يوفق للفهم عن الله ورسوله من اجتزأ بمسحهما من غير حائل .

فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس ، وأما من حيث المعنى فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله ، وبها يعصى الله سبحانه ويطاع ; فاليد تبطش ، والرجل تمشي ، والعين تنظر ، والأذن تسمع ، واللسان يتكلم ; فكان في غسل هذه الأعضاء - امتثالا لأمر الله ، وإقامة لمعبوديته - ما يقتضي إزالة ما لحقها من درن المعصية ووسخها .

وقد أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه حيث قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة قال : { قلت : يا رسول الله حدثني عن الوضوء ، قال : ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينثر إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ، ثم يمسح برأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو أهله - أو هو له أهل - وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه } " وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا توضأ العبد المسلم - أو المؤمن - فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - أو مع آخر قطر الماء - حتى يخرج نقيا من الذنوب } وفي مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال { : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور ، وعليه عقد ، فيتوضأ ; فإذا وضأ يديه انحلت عقدة ، وإذا وضأ وجهه انحلت عقدة ، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة ، وإذا وضأ رجليه انحلت عقدة ، فيقول الرب عز وجل للذي وراء الحجاب : انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه ، ما سألني عبدي هذا فهو له } .

وفيه أيضا عن أبي أمامة يرفعه : { أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة ، فإذا تمضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة ، فإذا غسل وجهه نزلت خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة ، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له ، ومن كل خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه ، فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته ، وإن قعد قعد سالما } وفيه أن [ ص: 60 ] مقصود المضمضة كمقصود غسل الوجه واليدين سواء ، وأنه حاجة اللسان والشفتين إلى الغسل كحاجة بقية الأعضاء ; فمن أنكس قلبا وأفسد فطرة وأبطل قياسا ممن يقول : إن غسل باطن المقعدة أولى من غسل هذه الأعضاء ، وإن الشارع فرق بين المتماثلين ؟ هذا إلى ما في غسل هذه الأعضاء المقارن لنية التعبد لله من انشراح القلب وقوته ، واتساع الصدر ، وفرح النفس ، ونشاط الأعضاء ; فتميزت عن سائر الأعضاء بما أوجب غسلها دون غيرها ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية