صفحة جزء
فصل [ سوى الله بين العبد والحر في أحكام وفرق بينهما في أخرى ]

وأما قوله : " وجعل حد الرقيق على النصف من حد الحر ، وحاجتهما إلى الزجر واحدة " فلا ريب أن الشارع فرق بين الحر والعبد في أحكام وسوى بينهما في أحكام ; فسوى بينهما في الإيمان والإسلام ووجوب العبادات البدنية كالطهارة والصلاة والصوم لاستوائهما في سببهما ، وفرق بينهما في العبادات المالية كالحج والزكاة والتكفير بالمال ; لافتراقهما في سببهما .

وأما الحدود فلما كان وقوع المعصية من الحر أقبح من وقوعها من العبد من جهة كمال نعمة الله تعالى عليه بالحرية ، وأن جعله مالكا لا مملوكا ، ولم يجعله تحت قهر غيره وتصرفه فيه ، ومن جهة تمكنه بأسباب القدرة من الاستغناء عن المعصية بما عوض الله عنها من المباحات ، فقابل النعمة التامة بضدها ، واستعمل القدرة في المعصية ، فاستحق من العقوبة أكثر مما يستحقه من هو أخفض منه رتبة وأنقص منزلة ; فإن الرجل كلما كملت نعمة الله عليه كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتم ; ولهذا قال تعالى في حق من أتم نعمته عليهن من النساء : { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما } وهذا على وفق قضايا العقول ومستحسناتها ; فإن العبد كلما كملت نعمة الله عليه ينبغي له أن تكون طاعته له أكمل ، وشكره له أتم ، ومعصيته له أقبح ، وشدة العقوبة تابعة لقبح المعصية ; ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه ، فإن نعمة الله عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل ، وصدور المعصية منه أقبح من صدورها من الجاهل ، ولا يستوي عند الملوك [ ص: 85 ] والرؤساء من عصاهم من خواصهم وحشمهم ومن هو قريب منهم ومن عصاهم من الأطراف والبعداء ; فجعل حد العبد أخف من حد الحر ، جمعا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه ، ولهذا كان على النصف منه في النكاح والطلاق والعدة ، إظهارا لشرف الحرية وخطرها ، وإعطاء لكل مرتبة حقها من الأمر كما أعطاها حقها من القدر ، ولا تنتقض هذه الحكمة بإعطاء العبد في الآخرة أجرين ، بل هذا محض الحكمة ; فإن العبد كان عليه في الدنيا حقان حق لله وحق لسيده فأعطي بإزاء قيامه بكل حق أجرا ، فاتفقت حكمة الشرع والقدر والجزاء ، والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية