صفحة جزء
فصل [ الفرق بين نذر الطاعة والحلف بها ]

وأما قوله : " وأوجب على من نذر لله طاعة الوفاء بها ، وجوز لمن حلف عليها أن يتركها ويكفر يمينه ، وكلاهما قد التزم فعلها لله " فهذا السؤال يورد على وجهين : أحدهما : أن يحلف ليفعلنها ، نحو أن يقول : والله لأصومن الاثنين والخميس ، ولأتصدقن ، كما يقول : لله علي أن أفعل ذلك .

والثاني : أن يحلف بها كما يقول : إن كلمت فلانا فلله علي صوم سنة وصدقة ألف .

فإن أورد على الوجه الأول فجوابه أن الملتزم الطاعة لله لا يخرج التزامه لله عن أربعة أقسام ; أحدها : التزام بيمين مجردة .

الثاني : التزام بنذر مجرد ، الثالث : التزام بيمين مؤكدة بنذر ، الرابع : التزام بنذر مؤكد بيمين : فالأول نحو قوله : " والله لأتصدقن " والثاني نحو : " لله علي أن أتصدق " والثالث نحو : " والله إن شفى الله مريضي فعلي صدقة كذا " ، والرابع نحو : " إن شفى الله مريضي فوالله لأتصدقن " وهذا كقوله تعالى : { ومنهم من عاهد [ ص: 87 ] الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } فهذا نذر مؤكد بيمين ، وإن لم يقل فيه " فعلي " إذ ليس ذلك من شرط النذر ، بل إذا قال : إن سلمني الله تصدقت ، أو لأتصدقن ، فهو وعد وعده الله فعليه أن يفي به ، وإلا دخل في قوله : { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } فوعد العبد ربه نذر يجب عليه أن يفي له به ; فإنه جعله جزاء وشكرا له على نعمته عليه ، فجرى مجرى عقود المعاوضات لا عقود التبرعات ، وهو أولى باللزوم من أن يقول ابتداء : " لله علي كذا " فإن هذا التزام منه لنفسه أن يفعل ذلك ، والأول تعليق بشرط وقد وجد ، فيجب فعل المشروط عنده ; لالتزامه له بوعده .

فإن الالتزام تارة يكون بصريح الإيجاب ، وتارة يكون بالوعد ، وتارة يكون بالشروع كشروعه في الجهاد والحج والعمرة ، والالتزام بالوعد آكد من الالتزام بالشروع ، وآكد من الالتزام بصريح الإيجاب ; فإن الله سبحانه ذم من خالف ما التزمه له بالوعد ، وعاقبه بالنفاق في قلبه ، ومدح من وفى بما نذره له ، وأمر بإتمام ما شرع فيه له من الحج والعمرة ، فجاء الالتزام بالوعد آكد الأقسام الثلاثة ، وإخلافه يعقب النفاق في القلب ، وأما إذا حلف يمينا مجردة ليفعلن كذا فهذا حض منه لنفسه ، وحث على فعله باليمين ، وليس إيجابا عليها ، فإن اليمين لا توجب شيئا ولا تحرمه ، ولكن الحالف عقد اليمين بالله ليفعلنه ، فأباح الله سبحانه له حل ما عقده بالكفارة ، ولهذا سماها الله تحلة ، فإنها تحل عقد اليمين ، وليست رافعة لإثم الحنث كما يتوهمه بعض الفقهاء ، فإن الحنث قد يكون واجبا ، وقد يكون مستحبا ، فيؤمر به أمر إيجاب أو استحباب ، وإن كان مباحا ، فالشارع لم يبح سبب الإثم ، وإنما شرعها الله حلا لعقد اليمين كما شرع الله الاستثناء مانعا من عقدها ; فظهر الفرق بين ما التزم لله وبين ما التزم بالله .

فالأول ليس فيه إلا الوفاء ، والثاني يخير فيه بين الوفاء وبين الكفارة حيث يسوغ ذلك ، وسر هذا أن ما التزم له آكد مما التزم به ، فإن الأول متعلق بإلهيته ، والثاني بربوبيته ; فالأول من أحكام { إياك نعبد } والثاني من أحكام { إياك نستعين } وإياك نعبد قسم الله من هاتين الكلمتين ، وإياك نستعين قسم العبد كما في الحديث الصحيح الإلهي : { هذه بيني وبين عبدي نصفين } وبهذا يخرج الجواب عن إيراد هذا السؤال على الوجه الثاني ، وأن ما نذره لله من هذه الطاعات يجب الوفاء به ، وما أخرجه مخرج اليمين يخير بين الوفاء به وبين التكفير ; لأن الأول متعلق بإلهيته .

والثاني بربوبيته ، فوجب الوفاء بالقسم الأول ، ويخير الحالف في القسم الثاني ، وهذا من أسرار الشريعة ، وكمالها وعظمها .

ويزيد ذلك وضوحا أن الحالف بالتزام هذه الواجبات قصده ألا تكون ، ولكراهته [ ص: 88 ] للزومها له حلف بها ، فقصده ألا يكون الشرط فيها ولا الجزاء ، ولذلك يسمى نذر اللجاج والغضب ، فلم يلزمه الشارع به إذا كان غير مريد له ولا متقرب به إلى الله ، فلم يعقده لله ، وإنما عقده به ، فهو يمين محضة ، فإلحاقه بنذر القربة إلحاق له بغير شبهة ، وقطع له عن الإلحاق بنظيره ، وعذر من ألحقه بنذر القربة شبهة به في اللفظ والصورة ، ولكن الملحقون له باليمين أفقه وأرعى لجانب المعاني ، وقد اتفق الناس على أنه لو قال : " إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني " فحنث أن لا يكفر بذلك إن قصد اليمين ; لأن قصد اليمين منع من الكفر ، وبهذا وغيره احتج شيخ الإسلام ابن تيمية على أن الحلف بالطلاق والعتاق كنذر اللجاج والغضب ، وكالحلف بقوله : " إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني " وحكاه إجماع الصحابة في العتق ، وحكاه غيره إجماعا لهم في الحلف بالطلاق على أنه لا يلزم .

قال : لأنه قد صح عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ولا يعرف له في الصحابة مخالف ، ذكره ابن بزيزة في شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي ، فاجتهد خصومه في الرد عليه بكل ممكن ، وكان حاصل ما ردوا به قوله أربعة أشياء :

أحدها : - وهو عمدة القوم - أنه خلاف مرسوم السلطان .

والثاني : أنه خلاف الأئمة الأربعة .

والثالث : أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله : " إن أبرأتني فأنت طالق " ففعلت .

والرابع : أن العمل قد استمر على خلاف هذا القول ، فلا يلتفت إليه ، فنقض حججهم وأقام نحوا من ثلاثين دليلا على صحة هذا القول ، وصنف في المسألة قريبا من ألف ورقة ، ثم مضى لسبيله راجيا من الله أجرا أو أجرين ، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية