صفحة جزء
فصل :

[ حكمة إباحة العرايا ونحوها ]

وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا ; فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد ، وعلى هذا فالمصوغ والحيلة إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه ، وبيع هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوية ; فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان ، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي . وأما إن كانت الصياغة مباحة - كخاتم الفضة وحلية النساء وما أبيح من حلية السلاح وغيرها - فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها فإنه سفه وإضاعة للصنعة . والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك ، فالشريعة لا تأتي به ، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه ; فلم يبق إلا أن يقال : لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة ، بل يبيعها بجنس آخر ، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تتقيه الشريعة ; فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك ، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب ; وتكليف الاستصناع لكل من احتاج [ ص: 108 ] إليه إما متعذر أو متعسر ، والحيل باطلة في الشرع وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب ، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه ؟ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع ; فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس ، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع ، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي ، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة ، والجمهور يقولون : لم تدخل في ذلك الحيلة ، ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله : { الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير } وفي الزكاة قوله : { في الرقة ربع العشر } " والرقة : هي الورق ، وهي الدراهم المضروبة ، وتارة بلفظ الذهب والفضة ; فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين وإيجابا للزكاة فيهما ، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما ، بل فيه تفصيل ; فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها ، وفي هذا توفية الأدلة حقها ، وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها .

يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع ، لا من جنس الأثمان ، ولهذا لم تجب فيها الزكاة ، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع ، وإن كانت من غير جنسها ، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان ، وأعدت للتجارة ، فلا محذور في بيعها بجنسها ، ولا يدخلها : " إما أن تقضي وإما أن تربي " إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل ، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها ، لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين ، وتضرروا بذلك غاية الضرر .

يوضحه أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية ، وكان النساء يلبسنها ، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها ; ومن المعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج ، ويعلم أنهم يبيعونها ; ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه ، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا ، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها ، وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس .

يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه ، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف .

يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه ، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة ، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل ، وكما أبيحت ذوات [ ص: 109 ] الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر ، وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والمعامل من جملة النظر المحرم ، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبيه بالنساء الملعون فاعله ، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة ، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها ; لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ، وتحريم التفاضل إنما كان سدا للذريعة ; فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع ، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أوبالحيل ، والحيل باطلة في الشرع ، وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها ، وإذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسا ، ويقولون : الخمسة في مقابلة الخرقة ، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة ؟ وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلا ورحمة وجلالة بإباحة هذا وتحريم ذلك ، وهل هذا إلا عكس للمعقول والفطر والمصلحة ؟ والذي يقضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة ، حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت ، وحرموا بيع الكسب بالسمسم ، وبيع النشا بالحنطة ، وبيع الخل بالزبيب ، ونحو ذلك ، وحرموا بيع مد حنطة ودرهم بمد ودرهم وجاءوا إلى ربا الفضل النسيئة ففتحوا للتحيل عليه كل باب ، فتارة بالعينة ، وتارة بالمحلل ، وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ عليه ثم يطلقون العقد من غير اشتراط ، وقد علم الله والكرام الكاتبون والمتعاقدان ومن حضر أنه عقد ربا مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقدا ليس إلا ، ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره ، فهلا فعلوا ههنا كما فعلوا في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم ، وقالوا : قد يجعل وسيلة إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر فيقع التفاضل ؟ فيا لله العجب ، كيف حرمت هذه الذريعة إلى ربا الفضل وأبيحت تلك الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتا خالصا ؟ وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية ؟ وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء ، وبالله التوفيق .

[ السر في أنه ليس للصفات في البيوع مقابل ؟ ]

فإن قيل : الصفات لا تقابل بالزيادة ، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة ، وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء ، ولما أبطل الشارع ذلك علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة . [ ص: 110 ] قيل : الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتقابل بالأثمان ويستحق عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة لله لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعته ; فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة ; إذ ذلك يفضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل ; فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر ، والعاقل لا يبيع جنسا بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت ، فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك ، فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل ، وهذا بخلاف الصياغة التي جوز لهم المعاوضة عليها معه .

يوضحه أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها ; إذ لا فرق بينهما في ذلك .

يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة : بع هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك ، ولا يقول له : لا تعمل هذه الصياغة واتركها ، ولا يقول له : تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل ، ولم يقل قط : لا تبعه إلا بغير جنسه ، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئا من الأشياء بجنسه .

فإن قيل : فهب أن هذا قد سلم لكم في المصوغ ، فكيف يسلم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بيعت بالسبائك مفاضلا وتكون الزيادة في مقابلة صناعة الضرب ؟ قيل : هذا سؤال قوي وارد ، وجوابه أن السكة لا تتقوم فيه الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها ; فإن السلطان يضربها لمصلحة الناس العامة ، وإن كان الضارب يضربها بأجرة فإن القصد بها أن تكون معيارا للناس لا يتجرون فيها كما تقدم ، والسكة فيها غير مقابلة بالزيادة في العرف ، ولو قوبلت بالزيادة فسدت المعاملة ، وانتقضت المصلحة التي ضربت لأجلها ، واتخذها الناس سلعة ، واحتاجت إلى التقويم بغيرها ، ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه ، وإذا أخذ الرجل الدراهم رد نظيرها ، وليس المصوغ كذلك ، ألا ترى أن الرجل يأخذ مائة خفافا ويرد خمسين ثقالا بوزنها ولا يأبى ذلك الآخذ ولا القابض ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئا ؟ وهذا بخلاف المصوغ ، والنبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه لم يضربوا درهما واحدا ، وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان ، وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار .

فإن قيل : فيلزمكم على هذا أن تجوزوا بيع فروع الأجناس بأصولها متفاضلا ; فجوزوا بيع الحنطة بالخبز متفاضلا والزيت بالزيتون والسمسم بالشيرج . [ ص: 111 ] قيل : هذا سؤال وارد أيضا ، وجوابه أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع أو تكون الصورة المحرمة بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص على تحريمها ، والثلاثة منتفية في فروع الأجناس مع أصولها ، وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة لا يقوم مقامها ولا يساويها في إلحاقها بها ، وأما الأصناف الأربعة ففرعها إن خرج عن كونه قوتا لم يكن من الربويات ، وإن كانت قوتا كان جنسا قائما بنفسه ، وحرم بيعه بجنسه الذي هو مثله متفاضلا كالدقيق بالدقيق والخبز بالخبز ، ولم يحرم بيعه بجنس آخر وإن كان جنسهما واحدا ; فلا يحرم السمسم بالشيرج ولا الهريسة بالخبز ; فإن هذه الصناعة لها قيمة ; فلا تضيع على صاحبها ، ولم يحرم بيعها بأصولها في كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ، ولا حرام إلا ما حرمه الله كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها الله ، وتحريم الحلال كتحليل الحرام .

التالي السابق


الخدمات العلمية