صفحة جزء
[ مضار زلة العالم ]

قلت : والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد ، وأن العالم قد يزل ولا بد ; إذ ليس بمعصوم ، فلا يجوز قبول كل ما [ ص: 133 ] يقوله ، وينزل قوله منزلة قول المعصوم ; فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض ، وحرموه ، وذموا أهله وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم ، فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه ، وليس لهم تمييز بين ذلك ، فيأخذون الدين بالخطأ - ولا بد - فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويشرعون ما لم يشرع ، ولا بد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه ، والخطأ واقع منه ولا بد . وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا عن أبيه عن جده مرفوعا : { اتقوا زلة العالم ، وانتظروا فيئته } .

وذكر من حديث مسعود بن سعد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تقطع أعناقكم } .

ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها ; إذ لولا التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره .

فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين ، فإنه اتباع للخطأ على عمد ، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه ، وكلاهما مفرط فيما أمر به ، وقال الشعبي : قال عمر : يفسد الزمان ثلاثة : أئمة مضلون ، وجدال المنافق بالقرآن ، والقرآن حق ، وزلة العالم .

وقد تقدم أن معاذا كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس : الله حكم قسط ، هلك المرتابون - الحديث ، وفيه : " وأحذركم زيغة الحكيم ; فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق " . قلت لمعاذ : ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال لي : اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال ما هذه ، ولا يثنيك ذلك عنه ، فإنه لعله يراجع ، وتلق الحق إذا سمعته ، فإن على الحق نورا .

وذكر البيهقي من حديث حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد عن أبي العالية قال : قال ابن عباس : ويل للأتباع من عثرات العالم ، قيل : وكيف ذاك يا أبا العباس ؟ قال : يقول العالم من قبل رأيه ، ثم يسمع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدع ما كان عليه ، وفي لفظ : فيلقى من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيخبره فيرجع ويقضي الأتباع بما حكم .

وقال تميم الداري : اتقوا زلة العالم ، فسأله عمر : ما زلة العالم ؟ قل : يزل بالناس فيؤخذ به ، فعسى أن يتوب العالم والناس يأخذون بقوله .

وقال شعبة : عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال : قال معاذ بن جبل : يا معشر [ ص: 134 ] العرب كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع أعناقكم ، وزلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، فسكتوا ، فقال : أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم ، وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم ; فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب ، وأما القرآن فله منار كمنار الطريق فلا يخفى على أحد ، فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه ، وما شككتم فكلوه إلى عالمه ، وأما الدنيا فمن جعل الله الغنى في قلبه فقد أفلح ، ومن لا فليس بنافعته دنياه .

وذكر أبو عمر من حديث حسين الجعفي عن زائدة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال : قال سلمان : كيف أنتم عند ثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تقطع أعناقكم ؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم ، وأما مجادلة المنافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فلا يخفى على أحد ، فما عرفتم منه فخذوه ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى الله ، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم .

قال أبو عمر : وتشبه زلة العالم بانكسار السفينة ; لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير .

قال أبو عمر : وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه .

وقال غير أبي عمر : كما أن القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وواحد في الجنة فالمفتون ثلاثة ، ولا فرق بينهما إلا في كون القاضي يلزم بما أفتى به ، والمفتي لا يلزم به .

وقال ابن وهب : سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه كان يقول : اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك .

قال ابن وهب : فسألت سفيان عن الإمعة ، فحدثني عن أبي الزناد عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال : كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيأتي معه بغيره ، وهو فيكم المحقب دينه الرجال .

وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصري : ثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : إن حديثكم شر الحديث ، إن كلامكم شر الكلام ; فإنكم قد [ ص: 135 ] حدثتم الناس حتى قيل : قال فلان وقال فلان ، ويترك كتاب الله ، من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله ، وإلا فليجلس ; فهذا قول عمر لأفضل قرن على وجه الأرض ، فكيف لو أدرك ما أصبحنا فيه من ترك كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة لقول فلان وفلان ؟ ، فالله المستعان ، [ كلام علي لكميل بن زياد ]

قال أبو عمر : وقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة - لكميل بن زياد النخعي - وهو حديث مشهور عند أهل العلم ، يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم - : يا كميل ، إن هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل صائح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق . ثم قال : آه إن ههنا علما - وأشار بيده إلى صدره - لو أصبت له حملة ، بل قد أصبت لقنا غير مأمون ، يستعمل آلة الدين الدنيا ، ويستظهر بحجج الله على كتابه وبنعمه على معاصيه ، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ، لا يدري أين الحق ، إن قال أخطأ ، وإن أخطأ لم يدر ، مشغوف بما لا يدري حقيقته ، فهو فتنة لمن فتن به ، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه .

[ نهي الصحابة عن الاستنان بالرجال ]

وذكر أبو عمر عن أبي البختري عن علي قال : إياكم والاستنان بالرجال ، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار ، فيموت وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيموت وهو من أهل الجنة ، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء .

وقال ابن مسعود : لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر .

قال أبو عمر : وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يذهب العلماء ، ثم يتخذ الناس رءوسا جهالا ، يسألون فيفتون بغير علم ، فيضلون ويضلون } قال أبو عمر : وهذا كله نفي للتقليد ، وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده . [ ص: 136 ] ثم ذكر من طريق يونس بن عبد الأعلى ثنا سفيان بن عيينة قال : اضطجع ربيعة مقنعا رأسه وبكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : رياء ظاهر ، وشهوة خفية ، والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم : ما نهوهم عنه انتهوا ، وما أمروا به ائتمروا .

وقال عبد الله بن المعتمر : لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلد .

ثم ساق من حديث جامع بن وهب : أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن بكر بن عمر عن عمرو بن أبي نعيمة عن مسلم بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ، ومن استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه ، ومن أفتى بفتيا بغير ثبت فإنما إثمها على من أفتاه } وقد تقدم هذا الحديث من رواية أبي داود وفيه دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد ، فإنه إفتاء بغير ثبت ; فإن الثبت الحجة التي يثبت بها الحكم باتفاق الناس كما قال أبو عمر [ الاحتجاج على من أجاز التقليد بحجج نظرية ]

وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعد ما تقدم ، فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني ، وأنا أورده ، قال : يقال لمن حكم بالتقليد : هل لك من حجة فيما حكمت به ؟ فإن قال : " نعم " بطل التقليد ; لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد . وإن قال : " حكمت به بغير حجة " قيل له : فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة ؟ قال الله عز وجل : { إن عندكم من سلطان بهذا } أي من حجة بهذا . فإن قال : " أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي " قيل له : إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى ; لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك ، فإن قال : " نعم " ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن أبى ذلك نقض قوله ، وقيل له : كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما وهذا تناقض ؟ فإن قال : " لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك " قيل له : وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه ، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك ، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك ; لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك ، فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من [ ص: 137 ] صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع ، والتابع من دونه في قياس قوله ، والأعلى للأدنى أبدا ، وكفى بقول يؤول إلى هذا تناقضا وفسادا .

وقال أبو عمر : قال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به ، فمن بان له الشيء فقد علمه ، قالوا : والمقلد لا علم له ، ولم يختلفوا في ذلك ، ومن ههنا والله أعلم قال البختري :

عرف العالمون فضلك بالعلم وقال الجهال بالتقليد     وأرى الناس مجمعين
على فضلك من بين سيد ومسود



التالي السابق


الخدمات العلمية