صفحة جزء
[ الرد على دعوى أن الأئمة قالوا : بجواز التقليد ]

الوجه الخامس والستون : قولكم : " قد صرح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان : إذا رأيت الرجل يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تنهه ، وقال محمد بن الحسن : يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ، ولا يجوز له تقليد مثله ، وقال الشافعي في غير موضع : قلته تقليدا لعمر ، وقلته تقليدا لعثمان ، وقلته تقليدا لعطاء " .

جوابه من وجوه : أحدها : أنكم إن ادعيتم أن جميع العلماء صرحوا بجواز التقليد فدعوى باطلة ، فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذم التقليد وأهله [ ص: 184 ] والنهي عنه ما فيه كفاية ، وكانوا يسمون المقلد الإمعة ومحقب دينه ، كما قال ابن مسعود : الإمعة الذي يحقب دينه الرجال ، وكانوا يسمونه الأعمى الذي لا بصيرة له ، ويسمون المقلدين أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل صائح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يركنوا إلى ركن وثيق ، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة ، وكما سماه الشافعي حاطب ليل ، ونهى عن تقليده وتقليد غيره ; فجزاه الله عن الإسلام خيرا ، لقد نصح لله ورسوله والمسلمين ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وأمر باتباعهما دون قوله ، وأمرنا بأن نعرض أقواله عليهما فنقبل منها ما وافقهما ونرد ما خالفهما ; فنحن نناشد المقلدين : هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عصوه وخالفوه ؟ وإن ادعيتم أن من العلماء من جوز التقليد فكان ما رأى .

الثاني : أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم جوزوا التقليد لمن هو أعلم منهم هم من أعظم الناس رغبة عن التقليد واتباعا للحجة ومخالفة لمن هو أعلم منهم ، فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف ، وقد صح عن أبي يوسف أنه قال : لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا .

الثالث : أنكم منكرون أن يكون من قلدتموه من الأئمة مقلدا لغيره أشد الإنكار ، وقمتم وقعدتم في قول الشافعي : قلته تقليدا لعمر ، وقلته تقليدا لعثمان ، وقلته تقليدا لعطاء ، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد الاضطراب ، وادعيتم أنه لم يقلد زيدا في الفرائض ، وإنما اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاده .

ووقع الخاطر على الخاطر ، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة حتى في الأكدرية ، وجاء الاجتهاد حذو القذة بالقذة ، فكيف نصبتموه مقلدا ههنا ؟ ولكن هذا التناقض جاء من بركة التقليد ، ولو اتبعتم العلم من حيث هو واقتديتم بالدليل وجعلتم الحجة إماما لما تناقضتم هذا التناقض وأعطيتم كل ذي حق حقه .

الرابع : أن هذا من أكبر الحجج عليكم ; فإن الشافعي قد صرح بتقليد عمر وعثمان وعطاء مع كونه من أئمة المجتهدين ، وأنتم - مع إقراركم بأنسكم من المقلدين - لا ترون تقليد واحد من هؤلاء ، بل إذا قال الشافعي وقال عمر وعثمان وابن مسعود - فضلا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن - تركتم تقليد هؤلاء وقلدتم الشافعي ، وهذا عين التناقض ; فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه ، فإن قلدتم الشافعي فقلدوا من قلده الشافعي ، فإن قلتم : بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي ، قيل : لم يكن ذلك تقليدا منكم لهم ، بل تقليدا له ، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا إلى أحد منهم ، الخامس : أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم ، ولا سوغوه بتة ، بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله ، ولم يجدوا [ ص: 185 ] فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه ، وهذا فعل أهل العلم ، وهو الواجب ; فإن التقليد إنما يباح للمضطر ، وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد فهو كمن عدل إلى الميتة مع قدرته على المذكى ; فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة ، فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية