صفحة جزء
[ الفرق بين حال الأئمة وحال المقلدين ]

الوجه السادس والستون : قولكم : " قال الشافعي : رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا ونحن نقول ونصدق : رأي الشافعي والأئمة لنا خير من رأينا لأنفسنا " جوابه من وجوه : أحدها : أنكم أول مخالف لقوله ، ولا ترون رأيهم لكم خيرا من رأي الأئمة لأنفسهم ، بل تقولون : رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا ، فإذا جاءت الفتيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة وجاءت الفتيا عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة وأخذتم بما أفتى به الأئمة ، فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم .

الثاني : أن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى الصحابة ; لما خصهم الله به من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسولهم وشاهدوا الوحي والتلقي عن الرسول بلا واسطة ونزول الوحي بلغتهم وهي غضة محضة لم تشب ، ومراجعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم من القرآن والسنة حتى يجليه لهم ; فمن له هذه المزية بعدهم ؟ ومن شاركهم في هذه المنزلة حتى يقلد كما يقلدون فضلا عن وجوب تقليده وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما صرح به غلاتهم ؟ وتالله إن بين علم الصحابة وعلم من قلدتموه من الفضل كما بينهم وبينهم في ذلك .

قال الشافعي ، في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم : وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به عليهم ، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا .

قال الشافعي : وقد أثنى الله على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل ، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم ، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته } ، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه } .

وقال ابن مسعود : إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فاختارهم [ ص: 186 ] لصحبته ، وجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه ، فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح " وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنة خلفائه الراشدين وبالاقتداء بالخليفتين .

وقال أبو سعيد : { كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود بالعلم ، ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل ، وضمه إليه مرة وقال : اللهم علمه الحكمة } وتأول عمر في المنام القدح الذي شرب منه حتى رأى الذي يخرج من تحت أظفاره وأوله بالعلم ، وأخبر أن القوم إن أطاعوا أبا بكر وعمر يرشدوا ، وأخبر أنه لو كان بعده نبي لكان عمر ، وأخبر أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه .

وقال : { رضيت لكم ما رضي ابن أم عبد } ، يعني عبد الله بن مسعود ، وفضائلهم ومناقبهم وما خصهم الله به من العمل والفضل ، أكثر من أن يذكر ، فهل يستوي تقليد هؤلاء وتقليد من بعدهم ممن لا يدانيهم ولا يقاربهم ؟ الثالث : أنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلدتموه حجة ، وأكثر العلماء بل الذي نص عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة حجة : يجب اتباعها ، ويحرم الخروج منها كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك ، وأبلغهم فيه الشافعي ، ونبين أنه لم يختلف مذهبه أن قول الصحابي حجة ، ونذكر نصوصه في الجديد على ذلك إن شاء الله ، وأن من حكى عنه قولين في ذلك فإنما حكى ذلك بلازم قوله ، لا بصريحه ، وإن كان قول الصحابي حجة فقبول قوله حجة واجب متعين ، وقبول قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغا ، فقياس أحد القائلين على الآخر من أفسد القياس وأبطله .

التالي السابق


الخدمات العلمية