[ 
الصحابة كانوا يبلغون الناس حكم الله ورسوله   ] 
الوجه الثاني والسبعون : قولكم : " إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد ، وكان الناس حديثي عهد بالإسلام ، وكانوا يفتونهم ، ولم يقولوا لأحد منهم : عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل " جوابه أنهم لم يفتوهم بآرائهم ، وإنما بلغوهم ما قاله نبيهم وفعله وأمر به ; فكان ما أفتوهم به هو الحكم وهو الحجة ، وقالوا لهم : هذا عهد نبينا إلينا ، وهو عهدنا إليكم ، فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحكم ; فإن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحكم وهو دليل الحكم ، وكذلك القرآن ، وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ما قاله نبيهم وفعله وأمر به ، وإنما تبلغهم الصحابة ذلك ; فأين هذا من زمان إنما يحرص أشباه الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر ، وكلما تأخر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه ، حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرا لكلامهم ، وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدم هجرا ورغبة عنه ، حتى إن كتبه لا تكاد تجد عندهم منها شيئا بحسب تقدم زمانه ، ولكن أين قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للتابعين : لينصب كل منكم لنفسه رجلا يختاره ويقلده دينه ولا يلتفت إلى غيره ، ولا يتلق الأحكام من الكتاب والسنة ، بل من تقليد الرجال ، فإذا جاءكم عن الله ورسوله شيء وعمن نصبتموه إماما تقلدونه فخذوا بقوله ، ودعوا ما بلغكم عن الله ورسوله ; فوالله لو كشف الغطاء لكم وحقت الحقائق لرأيتم نفوسكم وطريقكم مع الصحابة كما قال الأول : 
نزلوا بمكة  في قبائل هاشم  ونزلت بالبيداء أبعد منزل 
وكما قال الثاني : 
سارت مشرقة وسرت مغربا     شتان بين مشرق ومغرب 
  .  
[ ص: 190 ] وكما قال الثالث : 
أيها المنكح الثريا سهيلا     عمرك الله كيف يلتقيان 
هي شامية إذا ما استقلت     وسهيل إذا استقل يماني 
  .