صفحة جزء
المثال التاسع :

رد النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة الدالة على ثبوت الأسباب شرعا وقدرا كقوله : { بما كنتم تعملون } { بما كنتم تكسبون } { بما قدمت أيديكم } { بما قدمت يداك } { بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } { ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا } وقوله : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } وقوله : { ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد } وقوله : { فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } وقوله : { فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب } وقوله : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } وقوله في العسل : { فيه شفاء للناس } وقوله في القرآن : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } إلى أضعاف أضعاف ذلك من النصوص المثبتة للسببية ، فردوا ذلك كله بالمتشابه من قوله : { هل من خالق غير الله } وقوله : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { ما أنا حملتكم ، ولكن الله حملكم } ونحو ذلك .

وقوله : { إني لا أعطي أحدا ولا أمنعه } وقوله للذي سأله عن العزل عن أمته { اعزل عنها فسيأتيها ما قدر لها } وقوله : { لا عدوى ولا طيرة } وقوله : { فمن أعدى الأول } وقوله : { أرأيت إن منع الله الثمرة } ولم يقل : منعها البرد والآفة التي تصيب الثمار ، ونحو ذلك من المتشابه الذي إنما يدل على أن مالك السبب وخالقه يتصرف فيه : بأن يسلبه سببيته [ ص: 213 ] إن شاء ، ويبقيها عليه إن شاء ، كما سلب النار قوة الإحراق عن الخليل ، وبالله العجب ، أترى من أثبت الأسباب وقال إن الله خالقها أثبت خالقا غير الله ؟ ،

وأما قوله : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } فغاب عنهم فقه الآية وفهمها ، والآية من أكبر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، والخطاب بها خاص لأهل بدر . وكذلك القبضة التي رمى بها النبي صلى الله عليه وسلم فأوصلها الله سبحانه إلى جميع وجوه المشركين ، وذلك خارج عن قدرته صلى الله عليه وسلم ، وهو الرمي الذي نفاه عنه ، وأثبت له الرمي الذي هو في محل قدرته وهو الخذف ، وكذلك القتل الذي نفاه عنهم هو قتل لم تباشره أيديهم ، وإنما باشرته أيدي الملائكة ، فكان أحدهم يشتد في أثر الفارس وإذا برأسه قد وقع أمامه من ضربة الملك ، ولو كان المراد ما فهمه هؤلاء الذين لا فقه لهم في فهم النصوص لم يكن فرق بين ذلك وبين كل قتل وكل فعل من شرب أو زنا أو سرقة أو ظلم فإن الله خالق الجميع ، وكلام الله ينزه عن هذا . وكذلك قوله { ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم } لم يرد أن الله حملهم بالقدر ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم متصرفا بأمر الله منفذا له ، فالله سبحانه أمره بحملهم فنفذ أوامره ، فكأن الله هو الذي حملهم ، وهذا معنى قوله { والله إني لا أعطي أحدا شيئا ولا أمنعه } ولهذا قال : { وإنما أنا قاسم } فالله سبحانه هو المعطي على لسانه ، وهو يقسم ما قسمه بأمره ، وكذلك قوله في العزل { فسيأتيها ما قدر لها } ليس فيه إسقاط الأسباب ; فإن الله سبحانه إذا قدر خلق الولد سبق من الماء ما يخلق منه الولد ولو كان أقل شيء فليس من كل الماء يكون الولد ، ولكن أين في السنة أن الوطء لا تأثير له في الولد ألبتة وليس سببا له ، وأن الزوج أو السيد إن وطئ أو لم يطأ فكلا الأمرين بالنسبة إلى حصول الولد وعدمه على حد سواء كما يقوله منكرو الأسباب ؟

وكذلك قوله { لا عدوى ولا طيرة } ولو كان المراد به نفي السبب كما زعمتم لم يدل على نفي كل سبب ، وإنما غايته أن هذين الأمرين ليسا من أسباب الشر ، كيف والحديث لا يدل على ذلك ؟ وإنما ينفي ما كان المشركون يثبتونه من سببية مستمرة على طريقة واحدة لا يمكن إبطالها ولا صرفها عن محلها ولا معارضتها بما هو أقوى منها ، لا كما يقوله من قصر علمه : إنهم كانوا يرون ذلك فاعلا مستقلا بنفسه .

[ مذاهب الناس في الأسباب ]

فالناس في الأسباب لهم ثلاث طرق : إبطالها بالكلية ، وإثباتها على وجه لا يتغير ولا يقبل سلب سببيتها ولا معارضتها بمثلها أو أقوى منها كما يقوله الطبائعية والمنجمون والدهرية ، والثالث ما جاءت به الرسل ودل عليه الحس والعقل والفطرة : إثباتها أسبابا ، [ ص: 214 ] وجوازا ، بل وقوع سلب سببيتها عنها إذا شاء الله ودفعها بأمور أخرى نظيرها أو أقوى منها ، مع بقاء مقتضى السببية فيها ، كما تصرف كثير من أسباب الشر بالتوكل والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار والعتق والصلة ، وتصرف كثير من أسباب الخير بعد انعقادها بضد ذلك ، فلله كم من خير انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله وهو يشاهد السبب حتى كأنه أخذ باليد ؟ وكم من شر انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله ؟ ، ومن لا فقه له في هذه المسألة فلا انتفاع له بنفسه ولا بعلمه ، والله المستعان وعليه التكلان .

التالي السابق


الخدمات العلمية