صفحة جزء
[ ص: 257 ] الكلام عن وضع الجوائح ]

المثال الرابع والأربعون : رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وضع الجوائح ، بأنها خلاف الأصول كما في صحيح مسلم عن جابر يرفعه : { لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ } وروى سفيان بن عيينة عن حميد عن سليمان عن جابر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نهى عن بيع السنين ، وأمر بوضع الجوائح } فقالوا : هذه خلاف الأصول ; فإن المشتري قد ملك الثمرة وملك التصرف فيها ، وثم نقل الملك إليه ، ولو ربح فيها كان الربح له ، فكيف تكون من ضمان البائع ؟ وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال : { أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا عليه فتصدقوا عليه ، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك } وروى مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة { أنه سمعها تقول : ابتاع رجل ثمر حائط في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعالجه ، وأقام عليه حتى تبين له النقصان ، فسأل رب الحائط أن يضع عنه ، فحلف لا يفعل ، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تألى أن لا يفعل خيرا فسمع بذلك رب المال ، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هو له } .

والجواب أن وضع الجوائح لا يخالف شيئا من الأصول الصحيحة ، بل هو مقتضى أصول الشريعة ، ونحن بحمد الله نبين هذا بمقامين ; أما الأول فحديث وضع الجوائح لا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا ، وهو أصل بنفسه ; فيجب قبوله ، وأما ما ذكرتم من القياس فيكفي في فساده شهادة النص له بالإهدار ، كيف وهو فاسد في نفسه ؟

وهذا يتبين بالمقام الثاني ، وهو أن وضع الجوائح كما هو موافق للسنة الصحيحة الصريحة فهو مقتضى القياس الصحيح ; فإن المشتري لم يتسلم الثمرة ولم يقبضها القبض التام الذي يوجب نقل الضمان إليه ; فإن قبض كل شيء بحسبه ، وقبض الثمار إنما يكون عند كمال إدراكها شيئا فشيئا فهو كقبض المنافع في الإجارة ، وتسليم الشجرة إليه كتسليم العين المؤجرة من الأرض والعقار والحيوان ، وعلق البائع لم تنقطع عن المبيع ، فإن له سقي الأصل وتعاهده ، كما لم تنقطع علق المؤجر عن العين المستأجرة ، والمشتري لم يتسلم التسليم التام كما لم يتسلم المستأجر التسليم التام ، فإذا جاء أمر غالب اجتاح الثمرة من غير تفريط من المشتري لم يحل للبائع إلزامه بثمن ما أتلفه الله سبحانه منها قبل تمكنه من قبضها القبض المعتاد .

وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : { أرأيت إن منع الله الثمرة ؟ فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ } فذكر الحكم وهو قوله : { فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا } وعلة الحكم وهو قوله : { أرأيت إن [ ص: 258 ] منع الله الثمرة } إلى آخرة .

وهذا الحكم نص لا يحتمل التأويل ، والتعليل وصف مناسب لا يقبل الإلغاء ولا المعارضة . وقياس الأصول لا يقتضي غير ذلك ، ولهذا لو تمكن من القبض المعتاد في وقته ثم أخره لتفريط منه أو لانتظار غلاء السعر كان التلف من ضمانه ولم توضع عنه الجائحة . وأما معارضة هذه السنة بحديث الذي أصيب في ثمار ابتاعها فمن باب رد المحكم بالمتشابه ; فإنه ليس فيه أنه أصيب فيها بجائحة ، فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة ، بل لعله أصيب فيها بانحطاط سعرها .

وإن قدر أن المصيبة كانت جائحة فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة ، بل لعلها جائحة خاصة كسرقة اللصوص التي يمكن الاحتراز منها ، ومثل هذا لا يكون جائحة تسقط الثمن عن المشتري ، بخلاف نهب الجيوش والتلف بآفة سماوية ، وإن قدر أن الجائحة عامة فليس في الحديث ما يبين أن التلف لم يكن بتفريطه في التأخير ، ولو قدر أن التلف لم يكن بتفريطه فليس فيه أنه طلب الفسخ وأن توضع عند الجائحة ، بل لعله رضي بالمبيع ولم يطلب الوضع ، والحق في ذلك له : إن شاء طلبه ، وإن شاء تركه ، فأين في الحديث أنه طلب ذلك ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منع منه ؟

ولا يتم الدليل إلا بثبوت المقدمتين ، فكيف يعارض نص قوله الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير معنى واحد وهو نص فيه بهذا الحديث المتشابه ؟ ثم قوله فيه : { ليس لكم فيه إلا ذلك } دليل على أنه لم يبق لبائعي الثمار من ذمة المشتري غير ما أخذه ، وعندكم المال كله في ذمته ; فالحديث حجة عليكم .

وأما المعارضة بخبر مالك فمن أبطل المعارضات وأفسدها ، فأين فيه أنه أصابته جائحة بوجه ما ؟ وإنما فيه أنه عالجه وأقام عليه حتى تبين له النقصان ، ومثل هذا لا يكون سببا لوضع الثمن ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية