صفحة جزء
[ الأذان للفجر قبل دخول وقتها ]

المثال السادس والأربعون : رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الأذان للفجر قبل دخول وقتها كما في الصحيحين من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن بلالا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم } وفي صحيح مسلم عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يغرنكم نداء بلال ، ولا هذا البياض حتى ينفجر الفجر } وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود ولفظه : { لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ; فإنه يؤذن - أو قال ينادي - بليل ليرجع قائمكم وينتبه نائمكم } قال مالك : [ ص: 260 ] لم تزل الصبح ينادى لها قبل الفجر ، فردت هذه السنة لمخالفتها الأصول والقياس على سائر الصلوات ، وبحديث حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر : { أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي : ألا إن العبد نام ، ألا إن العبد نام فرجع فنادى : ألا إن العبد نام } ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك ; فإنها أصل بنفسها ، وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات لو لم يكن فيه إلا مصادمته للسنة لكفى في رده ، فكيف والفرق قد أشار إليه صلى الله عليه وسلم ، وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة التي لا تكون في غير الفجر ؟ وإذا اختص وقتها بأمر لا يكون في سائر الصلوات امتنع الإلحاق . وأما حديث حماد عن أيوب فحديث معلول عند أئمة الحديث لا تقوم به حجة .

قال أبو داود : لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة . وقال إسحاق بن إبراهيم بن حبيب : سألت عليا وهو ابن المديني - عن حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر { أن بلالا أذن بليل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع فناد إن العبد نام } فقال : هو عندي خطأ ، لم يتابع حماد بن سلمة على هذا ، إنما روي أن بلالا كان ينادي بليل .

قال البيهقي : قد تابعه سعيد بن رزين وهو ضعيف . وأما حماد بن سلمة فإنه أحد أئمة المسلمين حتى قال الإمام أحمد : إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه ، فإنه كان شديدا على أهل البدع .

قال البيهقي : إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه ، فلذلك ترك البخاري الاحتجاج بحديثه ، وأما مسلم فاجتهد في أمره وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره ، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ أكثر من اثني عشر حديثا أخرجها في الشواهد دون الاحتجاج به

. وإذا كان الأمر كذلك فالاحتياط لمن راقب الله عز وجل أن لا يحتج بما يجد من حديثه مخالفا لأحاديث الثقات الأثبات ، وهذا الحديث من جملتها ، ثم ذكر من طريق الدارقطني عن معمر عن أيوب قال : أذن بلال مرة بليل ، قال الدارقطني : هذا مرسل ، ثم ذكر من طريق إبراهيم وعبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة عن عبد العزيز بن أبي رواد عن ابن عمر { أن بلالا قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ذلك ؟ قال : استيقظت وأنا وسنان ، فظننت أن الفجر قد طلع ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي في المدينة : ألا إن العبد قد نام ، وأقعده إلى جانبه حتى طلع الفجر } . ثم قال : هكذا رواه إبراهيم عن عبد العزيز ، وخالفه شعيب بن حرب ، فقال : عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذن لعمر يقال له مسروح أنه أذن قبل الصبح ، فأمره عمر أن ينادي : ألا إن العبد قد نام .

قال أبو داود : ورواه حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر عن نافع أو غيره أن مؤذنا لعمر يقال له مسروح أو غيره ، ورواه الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : كان لعمر مؤذن يقال له مسعود ، فذكر نحوه ، قال أبو داود : وهذا أصح [ ص: 261 ] من ذلك ، يعني حديث عمر أصح .

قال البيهقي : وروي من وجه آخر عن عبد العزيز موصولا ، ولا يصح ، رواه عامر بن مدرك عنه عن نافع عن ابن عمر : { أن بلالا أذن قبل الفجر ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن ينادي : إن العبد نام ، فوجد بلالا وجدا شديدا } ، قال الدارقطني : وهم فيه عامر بن مدرك .

والصواب عن شعيب بن حرب عن عبد العزيز عن نافع عن مؤذن عمر عن عمر من قوله ، وروي عن أنس بن مالك ، ولا يصح ، وروي عن أبي يوسف القاضي عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس : { أن بلالا أذن قبل الفجر ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصعد فينادي : ألا إن العبد نام ، ففعل ، وقال : ليت بلالا لم تلده أمه ، وابتل من نضح جبينه } .

قال الدارقطني : تفرد به أبو يوسف عن سعيد ، يعني موصولا ، وغيره يرسله عن سعيد عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والمرسل أصح ، ورواه الدارقطني من طريق محمد بن القاسم الأسدي : ثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس ، ثم قال : محمد بن القاسم الأسدي ضعيف جدا ، وقال البخاري : كذبه الإمام أحمد ، وروي عن حميد بن هلال { أن بلالا أذن ليلة بسواد ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى مقامه فينادي : إن العبد نام } ، ورواه إسماعيل بن مسلم عن حميد عن أبي قتادة ، وحميد لم يلق أبا قتادة ; فهو مرسل بكل حال . وروي عن شداد مولى عياض قال : { جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فقال : لا تؤذن حتى يطلع الفجر } ، وهذا مرسل .

قال أبو داود : شداد مولى عياض لم يدرك بلالا .

وروى الحسن بن عمارة عن طلحة بن مصرف عن سويد بن غفلة عن بلال قال : { أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أؤذن حتى يطلع الفجر } ، وعن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال مثله ، ولم يروه هكذا غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك ، ورواه الحجاج بن أرطاة عن طلحة وزبيد عن سويد بن غفلة { أن بلالا لم يؤذن حتى ينشق الفجر } ، هكذا رواه ، لم يذكر فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلاهما ضعيفان .

وروي عن سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال : لا تؤذن - وجمع سفيان أصابعه الثلاث - لا تؤذن حتى يقول الفجر هكذا } - وصف سفيان بين السبابتين ثم فرق بينهما - قال : وروينا عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود ما دل على أذان بلال بليل ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر معاني تأذينه بالليل ، وذلك أولى بالقبول لأنه موصول وهذا مرسل ، وروي عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي إسحاق عن الأسود قال : { قالت لي عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوتر من الليل رجع إلى فراشه ، فإذا أذن بلال قام ; فكان بلال يؤذن إذا طلع الفجر ، فإن كان جنبا اغتسل ، وإن لم يكن توضأ ثم صلى ركعتين } ، وروى الثوري عن أبي إسحاق في هذا الحديث قال : ما كان المؤذن يؤذن حتى يطلع الفجر ، وروى شعبة عن أبي إسحاق عن [ ص: 262 ] الأسود : { سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، قالت : كان ينام أول الليل ، فإذا كان السحر أوى ، ثم يأتي فراشه فإن كانت له حاجة إلى أهله ألم بهم ، ثم ينام ، فإذا سمع النداء - وربما قالت الأذان - وثب ، وربما قالت قام ، فإذا كان جنبا أفاض عليه الماء ، وربما قالت : اغتسل ، وإن لم يكن جنبا توضأ ثم خرج للصلاة } ، وقال زهير بن معاوية : عن أبي إسحاق في هذا الحديث : فإذا كان عند النداء الأول وثب .

قال البيهقي : وفي روايته ورواية شعبة كالدليل على أن هذا النداء كان قبل طلوع الفجر ، وهي موافقة لرواية القاسم عن عائشة ، وذلك أولى من رواية من خالفها ، وروي عن عبد الكريم عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أذن المؤذن صلى الركعتين ، ثم خرج إلى المسجد وحرم الطعام ، وكان لا يؤذن إلا بعد الفجر } .

قال البيهقي : هكذا في هذه الرواية ، وهو محمول إن صح على الأذان الثاني ، والصحيح عن نافع بغير هذا اللفظ ، ورواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها أخبرته { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة } والحديث في الصحيحين .

فإن قيل : عمدتكم في هذا إنما هو على حديث بلال ، ولا يمكن الاحتجاج به ; فإنه قد اضطرب الرواة فيه هل كان المؤذن بلالا أو ابن أم مكتوم ، وليست إحدى الروايتين أولى من الأخرى ، فتتساقطان ، فروى شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال : سمعت عمتي أنيسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن ابن أم مكتوم ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال } رواه البيهقي وابن حبان في صحيحه . فالجواب أن هذا الحديث قد رواه ابن عمر وعائشة وابن مسعود وسمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أن بلالا يؤذن بليل } وهذا الذي رواه صاحبا الصحيح ، ولم يختلف عليهم في ذلك ، وأما حديث أنيسة فاختلف عليها في ثلاثة أوجه ; أحدها : كذلك رواه محمد بن أيوب عن أبي الوليد وابن عمر عن شعبة ، الثاني : كحديث عائشة وابن عمر : { أن بلالا يؤذن بليل } هكذا رواه محمد بن يونس الكديمي عن أبي الوليد عن شعبة ، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة ; الثالث : روي على الشك : { إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم } أو قال : { ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال } كذلك رواه سليمان بن حرب وجماعة ، والصواب رواية أبي داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق لموافقتها لحديث ابن عمر وعائشة ، وأما رواية أبي الوليد وابن عمر فمما انقلب فيها لفظ الحديث ، وقد عارضها رواية الشك ورواية الجزم بأن المؤذن [ ص: 263 ] بليل هو بلال ، وهو الصواب بلا شك ، فإن ابن أم مكتوم كان ضرير البصر ، ولم يكن له علم بالفجر ; فكان إذا قيل له : " طلع الفجر " أذن ، وأما ما ادعاه بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأذان نوبا بين بلال وابن أم مكتوم ، وكان كل منهما في نوبته يؤذن بليل ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يأكلوا ويشربوا حتى يؤذن الآخر ; فهذا كلام باطل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يجئ في ذلك أثر قط ، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل ، ولكن هذه طريقة من يجعل غلط الرواة شريعة ويحملها على السنة ، وخبر ابن مسعود وابن عمر وعائشة وسمرة الذي لم يختلف عليهم فيه أولى بالصحة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية