صفحة جزء
[ ص: 296 ] سجود الشكر ]

المثال التاسع والستون : رد السنة الثابتة الصحيحة في سجود الشكر ، كحديث عبد الرحمن بن عوف { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : خرج نحو أحد فخر ساجدا فأطال السجود ، ثم قال : إن جبريل أتاني وبشرني فقال : إن الله تعالى يقول لك : من صلى عليك صليت عليه ، ومن سلم عليك سلمت عليه ، فسجدت لله تعالى شاكرا } .

وكحديث سعد بن أبي وقاص في { سجوده صلى الله عليه وسلم شاكرا لربه لما أعطاه ثلث أمته ، ثم سجد ثانية فأعطاه الثلث الآخر ثم سجد ثالثة فأعطاه الثلث الباقي } ، وكحديث أبي بكر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان إذا جاءه أمر يسر به خر ساجدا شكرا لله تعالى ، وأتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم ، فقام وخر ساجدا } .

وسجد كعب بن مالك لما بشر بتوبة الله عليه ، وسجد أبو بكر حين جاءه قتل مسيلمة الكذاب ، وسجد علي كرم الله وجهه حين وجد ذا الثدية في الخوارج الذين قتلهم ، ولا أعلم شيئا يدفع هذه السنن والآثار مع صحتها وكثرتها غير رأي فاسد ، وهو أن نعم الله سبحانه وتعالى لا تزال واصلة إلى عبده ، فلا معنى لتخصيص بعضها بالسجود .

وهذا من أفسد رأي وأبطله ; فإن النعم نوعان : مستمرة ، ومتجددة ، فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات ، والمتجددة شرع لها سجود الشكر ; شكرا لله عليها ، وخضوعا له وذلا ، في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها ، وذلك من أكبر أدوائها ; فإن الله سبحانه لا يحب الفرحين ولا الأشرين ; فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين ، وكان في سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره ، ونظير هذا السجود عند الآيات التي يخوف الله بها عباده كما في الحديث : { إذا رأيتم آية فاسجدوا } .

وقد فزع النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة ، وأمر بالفزع إلى ذكره ، ومعلوم أن آياته تعالى لم تزل مشاهدة معلومة بالحس والعقل ، ولكن تجددها يحدث للنفس من الرهبة والفزع إلى الله ما لا تحدثه الآيات المستمرة ، فتجدد هذه النعم في اقتضائها لسجود الشكر كتجدد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلوات .

ولهذا لما بلغ فقيه الأمة وترجمان القرآن { عبد الله بن عباس موت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم خر ساجدا ، فقيل له : أتسجد لذلك ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم آية فاسجدوا } .

وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا ؟ فلو لم تأت النصوص بالسجود عند تجدد النعم لكان هو محض القياس ، ومقتضى عبودية الرغبة ، كما أن السجود عند الآيات مقتضى عبودية الرهبة ، وقد أثنى الله سبحانه على الذين يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبا ورهبا .

ولهذا فرق الفقهاء بين صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء بأن هذه صلاة رهبة وهذه [ ص: 297 ] صلاة رغبة ، فصلوات الله وسلامه على من جاءت سنته وشريعته بأكمل ما جاءت به شرائع الرسل وسننهم وعلى آله .

التالي السابق


الخدمات العلمية