صفحة جزء
[ الجمع بين الصلاتين ]

المثال الثاني والسبعون : ترك السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في جمع [ ص: 9 ] التقديم والتأخير بين الصلاتين للعذر ، كحديث أنس : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل فجمع بينهما } وفي لفظ له : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل وقت العصر ، ثم يجمع بينهما } وهو في الصحيحين ، وكقول معاذ بن جبل : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمع مع العصر فيصليهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب } وهو في السنن والمسند ، وإسناده صحيح ، وعلته واهية ، وكقول ابن عباس : { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زاغت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ، وإذا لم تزغ في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينه وبين العشاء ، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كان العشاء نزل فجمع بينهما } وهذا متابع لحديث معاذ ، وفي بعض طرق هذا الحديث : { وإذا سافر قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر } وكقول ابن عمر وقد أخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما ثم أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كان يفعل ذلك إذا جد به السير } كانت هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ، ولا معارض لها ; فردت بأنها أخبار آحاد

، وأوقات الصلاة ثابتة بالتواتر ، كحديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وصلاته به كل صلاة في وقتها ثم قال : { الوقت ما بين هذين } فهذا في أول الأمر بمكة ، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالسائل في المدينة سواء صلى به كل صلاة في أول وقتها وآخره وقال : { الوقت ما بين هذين } وقال في حديث عبد الله بن عمرو : { وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر ، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط نور الشفق ، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل } وقال : { وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي تليها } ويكفي للسائل وقد سأله عن المواقيت ثم بينها له بفعله : { الوقت فيما بين هذين } فهذا بيان بالقول والفعل ، وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة في تفصيل الأوقات مجمع عليها بين الأمة .

وجميعهم احتجوا بها في أوقات الصلاة ، فقدمتم عليها أحاديث مجملة محتملة في الجمع غير صريحة فيه ; لجواز أن يكون المراد بها الجمع في الفعل ، وأن يراد بها الجمع في الوقت ، فكيف يترك الصريح المبين للمجمل المحتمل ؟ وهل هذا إلا ترك للمحكم وأخذ بالمتشابه ، وهو عين ما أنكرتموه في هذه الأمثلة ؟ [ ص: 10 ] فالجواب أن يقال : الجميع حق ; فإنه من عند الله ، وما كان من عند الله فإنه لا يختلف ، فالذي وقت هذه المواقيت وبينها بقوله وفعله هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله ; فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها .

والأوقات التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله نوعان بحسب حال أربابها : أوقات السعة والرفاهية ، وأوقات العذر والضرورة . ولكل منها أحكام تخصها ، وكما أن واجبات الصلاة وشروطها تختلف باختلاف القدرة والعجز فهكذا أوقاتها ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم وقت النائم والذاكر حين يستيقظ ويذكر ، أي وقت كان ، وهذا غير الأوقات الخمسة . وكذلك جعل أوقات المعذورين ثلاثة : وقتين مشتركين ، ووقتا مختصا ; فالوقتان المشتركان لأرباب الأعذار هما أربعة لأرباب الرفاهية ، ولهذا جاءت الأوقات في كتاب الله نوعين خمسة وثلاثة في نحو عشر آيات من القرآن ، فالخمسة لأهل الرفاهية والسعة ، والثلاثة لأرباب الأعذار ، وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه وبيان أسبابه ، فتوافقت دلالة القرآن والسنة والاعتبار الصحيح الذي هو مقتضى حكمة الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح .

فأحاديث الجمع مع أحاديث الإفراد بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات ; فالسنة يبين بعضها بعضا ، لا يرد بعضها ببعض ومن تأمل أحاديث الجمع وجدها كلها صريحة في جمع الوقت لا في جمع الفعل ، وعلم أن جمع الفعل أشق وأصعب من الإفراد بكثير ; فإنه ينتظر بالرخصة أن يبقى من وقت الأولى قدر فعلها فقط ، بحيث إذا سلم منها دخل وقت الثانية فأوقع كل واحدة منهما في وقتها ، وهذا أمر في غاية العسر والحرج والمشقة ، وهو مناف لمقصود الجمع ، وألفاظ السنة الصحيحة الصريحة ترده كما تقدم ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية