صفحة جزء
[ حكم الطلاق حال الغضب ]

ومن هذا رفعه صلى الله عليه وسلم حكم الطلاق عمن طلق في إغلاق ، وقال الإمام أحمد في رواية حنبل : هو الغضب ، وكذلك فسره أبو داود ، وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق أحد أئمة المالكية ومقدم فقهاء أهل العراق منهم ، وهي عنده من لغو اليمين أيضا ، فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق ، وحكاه شارح أحكام عبد الحق عنه ، وهو ابن بزيزة الأندلسي ، قال : وهذا قول علي وابن عباس وغيرهما من الصحابة إن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم ، وفي سنن الدارقطني بإسناد فيه لين من حديث ابن عباس يرفعه : { لا يمين في غضب ولا عتاق فيما لا يملك } وهو وإن لم يثبت رفعه فهو قول ابن عباس ، وقد فسر الشافعي : { لا طلاق في إغلاق } بالغضب ، وفسره به مسروق ; فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل ، كلهم فسروا الإغلاق بالغضب ، وهو من أحسن التفسير ; لأن الغضبان قد أغلق عليه باب القصد بشدة غضبه ، وهو كالمكره ، بل الغضبان أولى بالإغلاق من المكره ; لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر القليل الذي هو دونه ، فهو قاصد حقيقة ، ومن هنا أوقع عليه الطلاق من أوقعه ، وأما الغضبان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون ، فإن الغضب غول العقل يغتاله كما يغتاله الخمر ، بل أشد ، وهو شعبة من الجنون ، ولا يشك فقيه النفس في أن هذا لا يقع طلاقه ; ولهذا قال حبر الأمة الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين : إنما الطلاق عن وطر ، ذكره البخاري في صحيحه ، أي عن غرض من المطلق في وقوعه ، وهذا من كمال فقهه رضي الله عنه وإجابة الله دعاء رسوله له ، إذا الألفاظ إنما يترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها ، ولهذا لم يؤاخذنا الله باللغو في أيماننا ، ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة وجمهور السلف أنه قول الحالف : لا والله ، وبلى والله ، في عرض كلامه [ ص: 48 ] من غير عقد اليمين .

وكذلك لا يؤاخذ الله باللغو في أيمان الطلاق ، كقول الحالف في عرض كلامه : علي الطلاق لا أفعل ، والطلاق يلزمني لا أفعل ، من غير قصد لعقد اليمين ، بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو فيمين الطلاق أولى ألا ينعقد ولا يكون أعظم حرمة من الحلف بالله ، وهذا أحد القولين من مذهب أحمد ، وهو الصواب ، وتخريجه على نص أحمد صحيح ; فإنه نص على اعتبار الاستثناء في يمين الطلاق لأنها عنده يمين ، ونص على أن اللغو أن يقول : لا والله وبلى والله ، من غير قصد لعقد اليمين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم } وصح عنه أنه قال : { أفلح وأبيه إن صدق } ولا تعارض بينهما ، ولم يعقد النبي صلى الله عليه وسلم اليمين بغير الله قط ، وقد { قال حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أنتم إلا عبيد لأبي ، وكان نشوانا من الخمر ، فلم يكفره بذلك } ، وكذلك الصحابي الذي قرأ : ( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون ) وكان ذلك قبل تحريم الخمر ، ولم يعد بذلك كافرا ; لعدم القصد ، وجريان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه ، فإياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه ، فتجني عليه وعلى الشريعة ، وتنسب إليها ما هي بريئة منه ، وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يلزمه الله ورسوله به ; ففقيه النفس يقول : ما أردت ، ونصف الفقيه يقول : ما قلت ; فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال ، وقد رفع الله المؤاخذة بهذا وهذا كما قال المؤمنون : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " فقال ربهم تبارك وتعالى : قد فعلت .

التالي السابق


الخدمات العلمية