صفحة جزء
فصل

[ صيغ العقود إخبار عما في النفس من المعنى الذي أراده الشارع ]

ومما يوضح ما ذكرناه - من أن القصود في العقود معتبرة دون الألفاظ المجردة التي لم تقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها - أن صيغ العقود كبعت واشتريت وتزوجت وأجرت إما إخبارات وإما إنشاءات ، وإما أنها متضمنة للأمرين فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدل على العقود وإنشاءات لحصول العقود في الخارج ; فلفظها موجب لمعناها في الخارج ; وهي إخبار عما في النفس من تلك المعاني ، ولا بد في صحتها من [ ص: 97 ] مطابقة خبرها لمخبرها ، فإذا لم تكن تلك المعاني في النفس كانت خبرا كاذبا ، وكانت بمنزلة قول المنافق : أشهد أن محمدا رسول الله ، وبمنزلة قوله : آمنت بالله وباليوم الآخر ، وكذلك المحلل إذا قال " تزوجت " وهو لا يقصد بلفظ التزوج المعنى الذي جعله الله في الشرع كان إخبارا كاذبا وإنشاء باطلا ; فإنا نعلم أن هذه اللفظة لم توضع في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصد رد المطلقة إلى زوجها ، وليس له قصد في النكاح الذي وضعه الله بين عباده وجعله سببا للمودة والرحمة بين الزوجين ، وليس له قصد في توابعه حقيقة ولا حكما ، فمن ليس له قصد في الصحبة ولا في العشرة ولا في المصاهرة ولا في الولد ولا في المواصلة ولا المعاشرة ولا الإيواء ، بل قصده أن يفارق لتعود إلى غيره ; فالله جعل النكاح سببا للمواصلة والمصاحبة والمحلل جعله سببا للمفارقة ، فإنه تزوج ليطلق ; فهو مناقض لشرع الله ودينه وحكمته ، فهو كاذب في قوله " تزوجت " بإظهاره خلاف ما في قلبه ، وبمنزلة من قال لغيره وكلتك أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك وهو يقصد رفع هذه العقود وفسخها .

وقد تقدم أن صيغ العقود إخبارات عما في النفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلاما معتبرا ; فإنها لا تصير كلاما معتبرا إلا إذا قرنت بمعانيها ، فتصير إنشاء للعقود والتصرفات من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها وجد ، وإخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس ; فهي تشبه في اللفظ أحببت أو أبغضت وكرهت ، وتشبه في المعنى قم واقعد ، وهذه الأقوال إنما تفيد الأحكام إذا قصد المتكلم بها حقيقة أو حكما - ما جعلت له ، وإذا لم يقصد بها ما يناقض معناها ، وهذا فيما بينه وبين الله تعالى ; فأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة ، إلا لما تم عقد ولا تصرف ، فإذا قال بعت أو تزوجت كان هذا اللفظ دليلا على أنه قصد معناه المقصود به ، وجعله الشارع بمنزلة القاصد وإن كان هازلا ، وباللفظ والمعنى جميعا يتم الحكم ; فكل منهما جزء السبب ، وهما مجموعه ، وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى ، واللفظ دليل ; ولهذا يصار إلى غيره عند تعذره ، وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق ، لا سيما الأحكام الشرعية التي علق الشارع بها أحكامها ، فإن المتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها ، والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني ، فإن لم يقصد المتكلم به معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدا لغيرها [ ص: 98 ] أبطل الشارع عليه قصده ، فإن كان هازلا أو لاعبا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعنى كمن هزل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة ، بل لو تكلم الكافر بكلمة الإسلام هازلا ألزم به وجرت عليه أحكاما ظاهرا ، وإن تكلم بها مخادعا ماكرا محتالا مظهرا خلاف ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده كالمحلل والمرابي بعقد العينة وكل من احتال على إسقاط واجب أو فعل محرم بعقد أو قول أظهره وأبطن الأمر الباطل . وبهذا يخرج الجواب عن الإلزام بنكاح الهازل وطلاقه ورجعته وإن لم يقصد حقائق هذه الصيغ ومعانيها .

[ تقسيم جامع يبين حقيقة صيغ العقود ]

ونحن نذكر تقسيما جامعا نافعا في هذا الباب نبين به حقيقة الأمر فنقول : المتكلم بصيغ العقود إما أن يكون قاصدا للتكلم بها أو لا يكون قاصدا ; فإن لم يقصد التكلم بها كالمكره والنائم والمجنون والسكران والمغلوب على عقله لم يترتب عليها شيء ، وإن كان في بعض ذلك نزاع وتفصيل فالصواب أن أقوال هؤلاء كلها هدر كما دل عليه الكتاب والسنة والميزان وأقوال الصحابة ، وإن كان قاصدا التكلم بها فإما أن يكون عالما بغاياتها متصورا لها أو لا يدري معانيها ألبتة بل هي عنده كأصوات ينعق بها ; فإن لم يكن عالما بمعناها ولا متصورا له لم يترتب عليه أحكامها أيضا ، ولا نزاع بين أئمة الإسلام في ذلك ، وإن كان متصورا لمعانيها عالما بمدلولها فإما أن يكون قاصدا لها أو لا ; فإن كان قاصدا لها ترتبت أحكامها في حقه ولزمته ، وإن لم يكن قاصدا لها فإما أن يقصد خلافها أو لا يقصد لا معناها ولا غير معناها ; فإن لم يقصد غير التكلم بها فهو الهازل ونذكر حكمه ، وإن قصد غير معناها فإما أن يقصد ما يجوز له قصده أو لا ; فإن قصد ما يجوز له قصده نحو أن يقصد بقوله " أنت طالق " من زوج كان قبلي ، أو يقصد بقوله " أمتي - أو عبدي حر " أنه عفيف عن الفاحشة ، أو يقصد بقوله " امرأتي عندي مثل أمي " في الكرامة والمنزلة ، ونحو ذلك ، لم تلزمه أحكام هذه الصيغ فيما بينه وبين الله تعالى .

وأما في الحكم فإن اقترن بكلامه قرينة تدل على ذلك لم يلزمه أيضا ; لأن السياق والقرينة بينة تدل على صدقه ، وإن لم يقترن بكلامه قرينة أصلا وادعى ذلك دعوى مجردة لم تقبل منه ، وإن قصد بها ما لا يجوز قصده ، كالتكلم بنكحت وتزوجت بقصد التحليل ، وبعت واشتريت بقصد الربا ، وبخالعتها بقصد الحيلة على فعل المحلوف عليه ، وبملكت بقصد الحيلة على إسقاط الزكاة أو الشفعة ، وما أشبه ذلك ; فهذا لا يحصل له مقصوده الذي قصده وجعل ظاهر اللفظ والفعل وسيلة إليه ; فإن في تحصيل مقصوده تنفيذا للمحرم ، وإسقاطا للواجب ، وإعانة على معصية الله ومناقضة لدينه وشرعه ، فإعانته على ذلك إعانة على الإثم والعدوان ، ولا فرق بين إعانته على ذلك بالطريق التي [ ص: 99 ] وضعت مفضية إليه وبين إعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مفضية إلى غيره ; فالمقصود إذا كان واحدا لم يكن اختلاف الطرق الموصلة إليه بموجب لاختلاف حكمه فيحرم من طريق ويحل بعينه من طريق أخرى ، والطرق وسائل وهي مقصودة لغيرها ، فأي فرق بين التوسل إلى الحرام بطريق الاحتيال والمكر والخداع والتوسل إليه بطريق المجاهرة التي يوافق فيها السر الإعلان والظاهر الباطن والقصد اللفظ ، بل سالك هذه الطريقة قد تكون عاقبته أسلم وخطره أقل من سالك تلك من وجوه كثيرة ، كما أن سالك طريق الخداع والمكر عند الناس أمقت وفي قلوبهم أوضع وهم عنه أشد نفرة ممن أتى الأمر على وجهه ودخله من بابه ; ولهذا قال أيوب السختياني - وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم - في هؤلاء : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان ، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية