صفحة جزء
[ أحكام الدنيا تجري على الأسباب ]

وأما قوله : " إنه لم يحكم في المنافقين بحكم الكفر مع الدلالة التي لا أقوى منها وهي خبر الله تعالى عنهم وشهادته عليهم

فجوابه : أن الله تعالى لم يجر أحكام الدنيا على علمه في عباده ، وإنما أجراها على الأسباب التي نصبها أدلة عليها وإن علم سبحانه وتعالى أنهم مبطلون فيها مظهرون لخلاف ما يبطنون ، وإذا أطلع الله رسوله على ذلك لم يكن ذلك مناقضا لحكمه الذي شرعه ورتبه [ ص: 104 ] على تلك الأسباب كما رتب على المتكلم بالشهادتين حكمه وأطلع رسوله وعباده المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولهم اعتقادهم .

وهذا كما أجرى حكمه على المتلاعنين ظاهرا ثم أطلع رسوله والمؤمنين على حال المرأة بشبه الولد لمن رميت به ، وكما قال : { إنما أقضي بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار } .

وقد يطلعه الله على حال آخذ ما لا يحل له أخذه ، ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم . وأما الذي قال : " يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود " فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحا ولا كناية ، وإنما أخبره بالواقع مستفتيا عن حكم هذا الولد : أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقرب له الحكم بالشبه الذي ذكره ; ليكون أذعن لقبوله ، وانشراح الصدر له ، ولا يقبله على إغماض .

فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقول من يشاتم غيره : أما أنا فلست بزان ، وليست أمي بزانية . ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وأنكى من التصريح ، وأبلغ في الأذى ، وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح ، فهذا لون وذلك لون ، وقد حد عمر بالتعريض في القذف ، ووافقه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .

وأما قوله رحمه الله " إنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم " فإنه يريد ما رواه عن مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب ، فقال أحدهما للآخر : والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية ، فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه . فقال قائل : مدح أباه وأمه ، وقال آخرون : قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا ، نرى أن تجلده الحد ، فجلده عمر الحد ثمانين ، وهذا لا يدل على أن القائل الأول خالف عمر ; فإنه لما قيل له إنه قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا فهم أنه أراد القذف فسكت ، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة .

وقد صح عن عمر من وجوه أنه حد في التعريض ، فروى معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن عمر كان يحد في التعريض بالفاحشة ، وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن صفوان وأيوب عن عمر أنه حد في التعريض .

وذكر أبو عمر أن عثمان كان يحد في التعريض وذكره ابن أبي شيبة ، وكان عمر بن عبد العزيز يرى الحد في التعريض ، وهو قول أهل المدينة والأوزاعي وهو محض القياس ، كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكناية ، واللفظ إنما وضع لدلالته على المعنى ; فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن في تغيير اللفظ كثير فائدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية