صفحة جزء
فصل [ متى شرعت كفارة اليمين ؟ ]

وهذا يدل على أن كفارة الأيمان لم تكن مشروعة بتلك الشريعة ، بل ليس في اليمين إلا البر والحنث ، كما هو ثابت في نذر التبرر في شريعتنا ; وكما كان في أول الإسلام ، قالت عائشة رضي الله عنها : لم يكن أبو بكر يحنث في يمين ، حتى أنزل الله كفارة اليمين ، فدل على أنها لم تكن مشروعة في أول الإسلام ، وإذا كان كذلك صار كأنه قد نذر ضربها ، وهو نذر لا يجب الوفاء به ; لما فيه من الضرر عليه ، ولا يغني عنه كفارة يمين ; لأن تكفير النذر فرع عن تكفير اليمين ، فإذا لم تكن كفارة النذر إذ ذاك مشروعة فكفارة اليمين أولى ، وقد علم أن الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع ، وإذا كان الضرب الواجب بالشرع يجب تفريقه إذا كان المضروب صحيحا ويجوز جمعه إذا كان المضروب مريضا ميئوسا منه عند الكل أو مريضا على الإطلاق عند بعضهم ، كما ثبتت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز أن يقام الواجب بالنذر مقام ذلك عند العذر ، وقد كانت امرأة أيوب عليه السلام ضعيفة عن احتمال مائة الضربة التي حلف أن يضربها إياها ، وكانت كريمة على ربها ، فخفف عنها برحمته الواجب باليمين بأن أفتاه بجمع الضربات بالضغث كما خفف عن المريض .

ألا ترى أن السنة قد جاءت فيمن نذر الصدقة بجميع ماله أنه يجزيه الثلث ، فأقام الثلث في النذر مقام الجميع رحمة بالناذر وتخفيفا عنه ، كما أقيم مقامه في [ ص: 166 ] الوصية رحمة بالوارث ونظرا له ، وجاءت السنة فيمن نذرت الحج ماشية أن تركب وتهدي ، إقامة لترك بعض الواجب بالنذر مقام ترك الواجب بالشرع في المناسك عند العجز عنه كطواف الوداع عن الحائض .

وأفتى ابن عباس وغيره من نذر ذبح ابنه بشاة ، إقامة لذبح الشاة مقام ذبح الابن كما شرع ذلك للخليل ، وأفتى أيضا من نذر أن يطوف على أربع بأن يطوف أسبوعين ، إقامة لأحد الأسبوعين مقام طواف اليدين . وأفتى أيضا هو وغيره من الصحابة رضي الله عنهم المريض الميئوس منه والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم بأن يفطرا ويطعما كل يوم مسكينا ، إقامة للإطعام مقام الصيام وأفتى أيضا هو وغيره من الصحابة : الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أن تفطرا وتطعما كل يوم مسكينا ، إقامة للإطعام مقام الصيام ، وهذا كثير جدا ، وغير مستنكر في واجبات الشريعة أن يخفف الله تعالى الشيء منها عند المشقة بفعل ما يشبهه من بعض الوجوه كما في الأبدال وغيرها

ولكن مثل قصة أيوب لا يحتاج إليها في شرعنا ; لأن الرجل لو حلف ليضربن أمته أو امرأته مائة ضربة أمكنه أن يكفر عن يمينه من غير احتياج إلى حيلة وتخفيف الضرب بجمعه ، ولو نذر ذلك فهو نذر معصية فلا شيء عليه عند الطائفة ، وعند طائفة عليه كفارة يمين ، وأيضا فإن المطلق من كلام الآدميين محمول على ما فسر به المطلق من كلام الشارع خصوصا في الأيمان ; فإن الرجوع فيها إلى عرف الخطاب شرعا أو عادة أولى من الرجوع إلى موجب اللفظ في أصل اللغة ، والله سبحانه وتعالى قد قال : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ، وقال : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } .

وفهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم من ذلك أنه ضربات متعددة متفرقة لا مجموعة ، إلا أن يكون المضروب معذورا عذرا لا يرجى زواله ; فإنه يضرب ضربا مجموعا ، وإن كان يرجى زواله فهل يؤخر إلى الزوال ، أو يقام عليه مجموعا ؟ فيه خلاف بين الفقهاء ، فكيف يقال : إن الحالف ليضربن موجب يمينه هو الضرب المجموع مع صحة المضروب وقوته ؟ فهذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه أرباب الحيل ، وعليها بنوا حيلهم ، وقد ظهر بحمد الله أنه لا متمسك لهم فيها ألبتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية