فصل [ 
استنباط من قصة يوسف  وتعقيب عليه ]   . 
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة 
يوسف  على أنه جائز للإنسان 
التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق   . 
قال 
شيخنا  رضي الله عنه : وهذه الحجة ضعيفة ; فإن 
يوسف  لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه ، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم 
يوسف  حتى يقال إنه قد اقتص منه ، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك ، نعم تخلفه عنده كان يؤذيهم من أجل تأذي أبيهم والميثاق الذي أخذه عليهم ، وقد استثنى في الميثاق بقوله : { 
إلا أن يحاط بكم   } وقد أحيط بهم ، ولم يكن قصد 
يوسف  باحتباس أخيه الانتقام من إخوته ; فإنه كان أكرم من هذا ، وكان في ذلك من الإيذاء لأبيه 
. أعظم مما فيه من إيذاء إخوته ، وإنما هو أمر أمره الله به ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي استحق به 
يعقوب  ويوسف  كمال الجزاء ، وتبلغ حكمة الله التي قضاها لهم نهايتها . 
ولو كان 
يوسف  قصد القصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء ; فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به ، وإنما موضع الخلاف : 
هل يجوز له أن يسرق أو يخون من سرقه أو خانه مثل ما سرق منه أو خانه إياه ؟ وقصة 
يوسف  لم تكن من هذا الضرب . نعم ، لو كان 
يوسف  أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة ، مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضا ; فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق ، وهو أن يحبس رجل بريء ، ويعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جرم ، ولو قدر أن ذلك وقع من 
يوسف  فلا بد أن يكون بوحي من الله ابتلاء منه لذلك المعتقل ، كما ابتلى 
إبراهيم  بذبح ابنه ، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا كالوحي الذي جاء 
إبراهيم  بذبح ابنه ، وتكون حكمته في حق المبتلى امتحانه وابتلاؤه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه ، وتكون حاله في هذا كحال أبيه 
يعقوب  في احتباس 
يوسف  عنه ، وهذا معلوم من فقه القصة وسياقها ومن حال 
يوسف    . 
ولهذا قال تعالى : { 
كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع  [ ص: 171 ] درجات من نشاء ، وفوق كل ذي علم عليم   } فنسب الله تعالى هذا الكيد إلى نفسه كما نسبه إلى نفسه في قوله : { 
إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا   } ، وفي قوله : { 
ومكروا مكرا ومكرنا مكرا   } ، وفي قوله : { 
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين   } . 
وقد قيل : إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة ومجاز المقابلة نحو : { 
وجزاء سيئة سيئة مثلها   } ، ونحو قوله : { 
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم   } وقيل وهو أصوب : بل تسميته بذلك حقيقة على بابه ; فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي ، وكذلك الكيد والمخادعة ، ولكنه نوعان : قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه ، وحسن وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له ; فالأول مذموم والثاني ممدوح ، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة ، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب لا كما يفعل الظلمة بعباده . 
وأما السيئة فهي فيعلة مما يسوء ، ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها ; فهي سيئة له حسنة من الحكم العدل ، وإذا عرفت ذلك 
فيوسف  الصديق كان قد كيد غير مرة : أولها أن إخوته كادوا به كيدا حيث احتالوا به في التفريق بينه وبين أبيه ، ثم إن 
امرأة العزيز  كادته بما أظهرت أنه راودها عن نفسها ثم أودع السجن ، ثم إن النسوة كادوه حتى استعاذ 
. بالله من كيدهن فصرفه عنه ، وقال له 
يعقوب    : { 
لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا   } وقال الشاهد 
لامرأة العزيز    : { 
إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم   } . وقال : { 
ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، إن ربي بكيدهن عليم   } فكاد الله له أحسن كيد وألطفه وأعدله ، بأن جمع بينه وبين أخيه ، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا 
يوسف  من يد أبيه بغير اختياره ، وكاد له عوض كيد المرأة بأن أخرجه من ضيق السجن إلى فضاء الملك ، ومكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء ، وكان له في تصديق النسوة اللاتي كذبنه وراودنه حتى شهدن ببراءته وعفته ، وكاد له في تكذيب 
امرأة العزيز  لنفسها واعترافها بأنها هي التي راودته وأنه من الصادقين ; فهذه عاقبة من صبر على كيد الكائد له بغيا وعدوانا .