صفحة جزء
فصل . [ ص: 84 ] الصلح بين المسلمين ] .

وقوله : " والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " هذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي وغيره من حديث عمرو بن عوف المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ، والمسلمون على شروطهم ، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما } قال الترمذي : هذا حديث صحيح ; وقد ندب الله سبحانه وتعالى إلى الصلح بين الطائفتين في الدماء فقال : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } وندب الزوجين إلى الصلح عند التنازع في حقوقهما ، فقال : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } وقال تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } وأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بين بني عمرو بن عوف لما وقع بينهم ، ولما تنازع كعب بن مالك وابن أبي حدرد في دين على ابن أبي حدرد ، أصلح النبي صلى الله عليه وسلم بأن استوضع من دين كعب الشطر و [ أمر ] غريمه بقضاء الشطر ، وقال لرجلين اختصما عنده { : اذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق ثم استهما ثم ليحلل كل منكما صاحبه } وقال : { من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، وإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه } وجوز في دم العمد أن يأخذ أولياء القتيل ما صولحوا عليه ، ولما { استشهد عبد الله بن حرام الأنصاري ، والد جابر ، وكان عليه دين ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم غرماءه أن يقبلوا ثمر حائطة ويحللوا أباه } .

وقال عطاء عن ابن عباس : إنه كان لا يرى بأسا بالمخارجة ، يعني الصلح في الميراث ; وسميت المخارجة لأن الوارث يعطى ما يصالح عليه ويخرج نفسه من الميراث ، وصولحت امرأة عبد الرحمن بن عوف من نصيبها من ربع الثمن على ثمانين ألفا ، وقد روى مسعر عن أزهر عن محارب قال : قال عمر : " ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن " .

وقال عمر أيضا " ردوا الخصوم لعلهم أن يصطلحوا ، فإنه آثر للصدق ، وأقل للخيانة " .

وقال عمر أيضا : " ردوا الخصوم إذا كانت بينهم قرابة ، فإن فصل القضاء يورث بينهم الشنآن " [ ص: 85 ]

فصل .

[ الحقوق ضربان حق الله تعالى وحق عباده ] .

والحقوق نوعان : حق الله ، وحق الآدمي ; فحق الله لا مدخل للصلح فيه كالحدود والزكوات والكفارات ونحوها ، وإنما الصلح بين العبد وبين ربه في إقامتها ، لا في إهمالها ، ولهذا لا يقبل بالحدود ، وإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع .

وأما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها ، والصلح العادل هو الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال : { فأصلحوا بينهما بالعدل } والصلح الجائر هو الظلم بعينه ، وكثير من الناس لا يعتمد العدل في الصلح ، بل يصلح صلحا ظالما جائرا ، فيصالح بين الغريمين على دون الطفيف من حق أحدهما ، والنبي صلى الله عليه وسلم صالح بين كعب وغريمه وصالح أعدل الصلح فأمره أن يأخذ الشطر ويدع الشطر ; وكذلك لما عزم على طلاق سودة رضيت بأن تهب له ليلتها وتبقى على حقها من النفقة والكسوة ، فهذا أعدل الصلح ، فإن الله سبحانه أباح للرجل أن يطلق زوجته ويستبدل بها غيرها ، فإذا رضيت بترك بعض حقها وأخذ بعضه وأن يمسكها كان هذا من الصلح العادل ، وكذلك أرشد الخصمين اللذين كانت بينهما المواريث بأن يتوخيا الحق بحسب الإمكان ثم يحلل كل منهما صاحبه ; وقد أمر الله سبحانه بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين أولا فإن بغت إحداهما على الأخرى فحينئذ أمر بقتال الباغية لا بالصلح فإنها ظالمة ، ففي الإصلاح مع ظلمها هضم لحق الطائفة المظلومة ، وكثير من الظلمة المصلحين يصلح بين القادر الظالم والخصم الضعيف المظلوم بما يرضي به القادر صاحب الجاه ، ويكون له فيه الحظ ، ويكون الإغماض والحيف فيه على الضعيف ، ويظن أنه قد أصلح ، ولا يمكن المظلوم من أخذ حقه ، وهذا ظلم ، بل يمكن المظلوم من استيفاء حقه ، ثم يطلب إليه برضاه أن يترك بعض حقه بغير محاباة لصاحب الجاه ، ولا يشتبه بالإكراه للآخر بالمحاباة ونحوها .

فصل .

[ الصلح إما مردود وإما جائز نافذ ]

والصلح الذي يحل الحرام ويحرم الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بضع حلال ، أو إحلال بضع حرام ، أو إرقاق حر ، أو نقل نسب أو ولاء عن محل إلى محل ، أو أكل ربا ، أو إسقاط واجب ، أو تعطيل حد ، أو ظلم ثالث ، وما أشبه ذلك ; فكل هذا صلح جائز مردود [ ص: 86 ]

فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضا الله سبحانه ورضا الخصمين ; فهذا أعدل الصلح وأحقه ، وهو يعتمد العلم والعدل ; فيكون المصلح عالما بالوقائع ، عارفا بالواجب ، قاصدا للعدل ، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصائم القائم ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إصلاح ذات البين ; فإن فساد ذات البين الحالقة ، أما إني لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين } وقد جاء في أثر : أصلحوا بين الناس ، فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ; وقد قال تعالى : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون }

التالي السابق


الخدمات العلمية