صفحة جزء
فصل [ الجواب عن حديث أبو هريرة في تمر خيبر من صور النزاع ]

وأما حديث أبي هريرة وأبي سعيد : { بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا } فما أصحه من حديث ، ونحن نتلقاه بالقبول والتسليم ، والكلام معكم فيه من مقامين :

أحدهما : إبطال استدلالكم به على جواز الحيل ، وثانيهما : بيان دلالته على نقيض مطلوبكم ; إذ هذا شأن كل دليل صحيح احتج به محتج على باطل ; فإنه لا بد أن يكون فيه ما يدل على بطلان قوله ظاهرا أو إيماء ، مع عدم دلالته على قوله .

[ بحث في دلالة المطلق والفرق بينه وبين العام ]

فأما المقام الأول فنقول : غاية ما دل الحديث عليه { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع سلعته الأولى بثمن ثم يبتاع بثمنها تمرا آخر } ، ومعلوم قطعا أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن في العقد الباطل ; فلا بد أن يكون العقد الذي أذن فيه صحيحا ، [ ص: 175 ] والشأن كل الشأن في العقد المتنازع فيه ; فلو سلم لكم المنازع صحته لاستغنيتم عن الاستدلال بالحديث ، ولا يمكن الاستدلال بالحديث على صحته ; لأنه ليس بعام ; فإن قوله : " بع " مطلق لا عام ; فهذا البيع لو كان صحيحا متفقا على صحته لم يكن هناك لفظ عام يحتج به على تناوله ، فكيف هذا البيع مما قد دلت السنة الصحيحة وأقوال الصحابة والقياس الصحيح على بطلانه كما تقدم ؟ ولو اختلف رجلان في بيع هل هو صحيح أو فاسد ، وأراد كل واحد منهما إدخاله في هذا اللفظ ; لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ، ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا المطلق ; فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع ألبتة .

ونكتة الجواب أن يقال : الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح ، ومن سلم لكم أن هذه الصورة التي تواطأ فيها البائع والمشتري على الربا وجعل السلعة الدخيلة محللا له غير مقصودة بالبيع بيع صحيح ، وإذا كان الحديث ليس فيه عموم ، وإنما هو مطلق ، والأمر بالحقيقة المطلق ليس أمرا بشيء من صورها ; لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد ، والقدر المشترك ليس هو مما يميز به كل واحد من الأفراد عن الآخر ، ولا هو مستلزما له ; فلا يكون الأمر بالمشترك أمرا بالمميز بحال ، وإن كان مستلزما لبعض تلك القيود لا بعينه ، فيكون عاما لها على سبيل البدل ، لكن ذلك لا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع ، وهو المطلق في قوله : { بع هذا الثوب } لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو ، ولا بكذا أو كذا ، ولا بهذه السوق أو هذه ; فإن اللفظ لا دلالة له على شيء من شيء من ذلك ، إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلا من جهة وجود تلك الحقيقة ، لا من جهة تلك القيود ، وهذا الأمر لا خلاف فيه ، لكن بعض الناس يعتقد أن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة وهو خطأ ، والصواب أن القيود لا تنافي الأمر ولا تستلزمه ، وإن كان لزوم بعضها لزوما عقليا ضرورة وقوع القدر المشترك في ضمن قيد من تلك القيود ، وإذا تبين هذا فليس في الحديث أمره أن يبيع التمر لبائع النوع الآخر ولا لغيره ولا بحلول ولا تأجيل ولا بنقد البلد ولا غيره ولا بثمن المثل أو غيره ، وكل هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلا ، لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها ، وإنما استفيد عدم الامتثال إذا بيع بدون ثمن المثل أو بثمن مؤجل أو بغير نقد البلد من العرف الذي ثبت للبيع المطلق ، وكذلك ليس في اللفظ ما يدل على أنه يبيعه من البائع بعينه ولا غيره ، كما ليس فيه ما يمنعه ، بل كل واحد من الطرفين يحتاج إلى دليل خارج عن اللفظ المطلق ; فما قام الدليل على إباحته أبيح فعله بالدليل الدال على جوازه لا بهذا اللفظ ، وما قام دليل على المنع منه لم يعارض دليل المنع بهذا [ ص: 176 ] اللفظ المطلق حتى يطلب الترجيح ، بل يكون دليل المنع سالما عن المعارضة بهذا ، فإن عورض بلفظ عام متناول لإباحته بوضع اللفظ له أو بدليل خاص صحت المعارضة ; فتأمل هذا الموضع الذي كثيرا ما يغلط فيه الناظر والمناظر ، وبالله التوفيق .

وقد ظهر بهذا جواب من قال : " لو كان الابتياع من المشتري حراما لنهى عنه " فإن مقصوده صلى الله عليه وسلم إنما كان لبيان الطريق التي بها يحصل اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء ، وهو أن يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدا ، ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه ; لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة ، أو لأن المخاطب أحيل على فهمه وعلمه بأنه إنما أذن له في بيع يتعارفه الناس ، وهو البيع المقصود في نفسه ، ولم يؤذن له في بيع يكون وسيلة وذريعة ظاهرة إلى ما هو ربا صريح ، وكان القوم أعلم بالله ورسوله وشريعته من أن يفهموا عنه أنه أذن لهم في الحيل الربوية التي ظاهرها بيع وباطنها ربا ، ونحن نشهد بالله أنه كما لم يأذن فيها بوجه لم يفهمها عنه أصحابه بخطابه بوجه ، وما نظير هذا الاستدلال إلا استدلال بعضهم على جواز أكل ذي الناب والمخلب بقوله : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } واستدلال آخر بقوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } على جواز نكاح الزانية المصرة على الزنا ، واستدلال آخر على ذلك بقوله : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم } ، واستدلال غيره به على صحة نكاح التحليل بذلك ، وعلى صحة نكاح المتعة ، واستدلال آخر على جواز نكاح المخلوقة من مائه إذا كان زانيا ، ولو أن رجلا استدل بذلك على جواز نكاح المرأة على عمتها وخالتها وأخذ يعارض به السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال ، بل لو استدل به على كل نكاح حرمته السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال ، وكذلك قوله : { بع الجميع } لو استدل به مستدل على بيع من البيوع المتنازع فيها لم يكن فيه حجة ، وليس بالغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال : هذه الصورة غالبة فيحمل اللفظ عليها ، ولا هو المتعارف عند الإطلاق عرفا وشرعا .

وبالجملة فإرادة هذه الصورة وحدها من اللفظ ممتنع ، وإرادتها مع غيرها فرع على عمومه ، ولا عموم له ، وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف إلى البيع المعهود عرفا وشرعا ، وعلى التقديرات كلها لا تدخل هذه الصورة .

ومما يدل على ذلك أن هذه الصورة لا تدخل في أمر الرجل لعبده وولده ووكيله أن يشتري له كذا ، فلو قال : " بع هذه الحنطة العتيقة واشتر لنا جديدة " لم يفهم السامع إلا بيعا مقصودا ، أو شراء مقصودا ، فثبت أن الحديث ليس فيه إشعار بالحيلة الربوية ألبتة .

[ ص: 177 ] يوضحه أن قوله : " بع كذا ، واشتر كذا " أو " بعت ، واشتريت " لا يفهم منه إلا البيع الذي يقصد به نقل ملك المبيع نقلا مستقرا ; ولهذا لا يفهم منه بيع الهازل ولا المكره ، ولا بيع الحيلة ، ولا بيع العينة ، ولا يعد الناس من اتخذ خرزة أو عرضا يحلل به الربا ويبيعه ويشتريه صورة خالية عن حقيقة البيع ومقصوده تاجرا ، وإنما يسمونه مرابيا ومتحيلا ، فكيف يدخل هذا تحت لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ؟ يزيده إيضاحا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا } ونهى عن بيعتين في بيعة ، ومعلوم أنهما متى تواطئا على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة ، فلا يكون ما نهى عنه داخلا تحت ما أذن فيه

. يوضحه أيضا أنه قال : { لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع } وتواطؤهما على أن يبيعه السلعة بثمن ثم يشتري منه غيرها بذلك الثمن منطبق على لفظ الحديث ; فلا يدخل ما أخبر أنه لا يحل تحت ما أذن فيه .

يوضحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا } وهذا يقتضي بيعا ينشئه ويبتدئه بعد انقضائه البيع الأول ، ومتى واطأه في أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معا ; فلا يكون الثاني عقدا مستقلا مبتدأ ، بل هو من تتمة العقد الأول عندهما وفي اتفاقهما ، وظاهر الحديث أنه أمر بعقدين مستقلين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا ينبني عليه .

ولو نزلنا عن ذلك كله وسلمنا أن الحديث عام عموما لفظيا يدخل تحته صورة الحيلة فهو لا ريب مخصوص بصور كثيرة ; فنخص منه هذه الصورة المذكورة بالأدلة المتقدمة على بطلان الحيل وأضعافها ، والعام يخص بدون مثلها بكثير ، فكم قد خص العموم بالمفهوم وخبر الواحد والقياس وغير ذلك ، فتخصيصه - لو فرض عمومه - بالنصوص والأقيسة وإجماع الصحابة على تحريم الحيل أولى وأحرى ، بل واحد من تلك الأدلة التي ذكرناها على المنع من الحيل وتحريمها كاف في التخصيص ، وإذا كنتم قد خصصتم قوله صلى الله عليه وسلم : { لعن الله المحلل والمحلل له } مع أنه عام عموما لفظيا فخصصتموه بصورة واحدة وهي ما اشترطا في صلب العقد أنه إنما تزوجها ليحلها ومتى أحلها فهي طالق ، مع أن هذه الصورة نادرة جدا لا يفعلها المحلل ، والصور الواقعة في التحليل أضعاف هذه ، [ ص: 178 ] فحملتم اللفظ العام عموما لفظيا ومعنويا على أندر صورة تكون لو قدر وقوعها ، وأخليتموه عن الصور الواقعة المستعملة بين المحللين ; فقوله صلى الله عليه وسلم : { بع الجميع بالدراهم } أولى بالتقييد بالنصوص الكثيرة والآثار والأقيسة الصحيحة التي هي في معنى الأصل وحمله على البيع المتعارف المعهود عرفا وشرعا ، وهذا بحمد الله تعالى في غاية الوضوح ، ولا يخفى على منصف يريد الله ورسوله والدار الآخرة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية