صفحة جزء
[ ص: 197 ] الحيلة السريجية لعدم وقوع الطلاق أصلا ) : ومن هذا الباب الحيلة السريجية التي حدثت في الإسلام بعد المائة الثالثة ، وهي تمنع الرجل من القدرة على الطلاق ألبتة ، بل تسد عليه باب الطلاق بكل وجه ، فلا يبقى له سبيل إلى التخلص منها ، ولا يمكنه مخالعتها عند من يجعل الخلع طلاقا ، وهي نظير سد الإنسان على نفسه باب النكاح بقوله : كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، فهذا لو صح تعليقه لم يمكنه في الإسلام أن يتزوج امرأة ما عاش ، وذلك لو صح شرعه لم يمكنه أن يطلق امرأة أبدا .

وصورة هذه الحيلة أن يقول : كلما طلقتك - أو كلما وقع عليك طلاقي - فأنت طالق قبله ثلاثا ، قالوا : فلا يتصور وقوع الطلاق بعد ذلك ; إذ لو وقع لزم وقوع ما علق به وهو الثلاث ، وإذا وقعت الثلاث امتنع وقوع هذا المنجز ، فوقوعه يفضي إلى عدم وقوعه ، وما أفضى وجوده إلى عدم وجوده لم يوجد ، هذا اختيار أبي العباس بن سريج ، ووافقه عليه جماعة من أصحاب الشافعي ، وأبى ذلك جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والحنبلية وكثير من الشافعية ، ثم اختلفوا في وجه إبطال هذا التعليق ; فقال الأكثرون : هذا التعليق لغو وباطل من القول ; فإنه يتضمن المحال ، وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث ، وهذا محال ، فما تضمنه فهو باطل من القول ، فهو بمنزلة قوله : إذا وقع عليك طلاقي لم يقع ، وإذا طلقتك لم يقع عليك طلاقي ، ونحو هذا من الكلام الباطل ، بل قوله : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا " أدخل في الإحالة والتناقض ; فإنه في الكلام الأول جعل وقوع الطلاق مانعا من وقوعه مع قيام الطلاق ، وهنا جعل وقوعه مانعا من وقوعه مع زيادة محال عقلا وعادة ، فالمتكلم به يتكلم بالمحال قاصدا للمحال ، فوجود هذا التعليق وعدمه سواء ، فإذا طلقها بعد ذلك نفذ طلاقها ولم يمنع منه مانع ، وهذا اختيار أبي الوفاء ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد وأبي العباس بن القاص من أصحاب الشافعي .

وقالت فرقة أخرى : بل المحال إنما جاء من تعليق الثلاث على المنجز ، وهذا محال أن يقع المنجز ويقع جميع ما علق به ; فالصواب أن يقع المنجز ويقع جميع ما علق به أو تمام الثلاث من المعلق ، وهذا اختيار القاضي وأبي بكر وبعض الشافعية .

ومذهب أبي حنيفة والذين منعوا وقوع الطلاق جملة قالوا : هو ظاهر كلام الشافعي ، فهذا تلخيص الأقوال في هذا التعليق .

قال المصححون للتعليق : صدر من هذا الزوج طلاقان منجز ومعلق ، والمحل [ ص: 198 ] قابل ، وهو ممن يملك التنجيز والتعليق ، والجمع بينهما ممتنع ، ولا مزية لأحدهما على الآخر ، فتمانعا وتساقطا ، وبقيت الزوجية بحالها ، وصار كما لو تزوج أختين في عقد واحد فإنه يبطل نكاحهما لهذا الدليل بعينه .

وكذلك إذا أعتق أمته في مرض موته وزوجها عبده ولم يدخل بها وقيمتها مائة ومهرها مائة وباقي التركة مائة لم يثبت لها الخيار ; لأن إثبات الخيار يقتضي سقوط المهر ، وسقوط المهر يقتضي نفي الخيار ، والجمع بينهما لا يمكن ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، لأن طريق ثبوتهما الشرع ، فأبقينا النكاح ورفضنا الخيار ولم يسقط المهر ، وكل ما أفضى وقوعه إلى عدم وقوعه فهذه سبيله . ومثاله في الحس إذا تشاح اثنان في دخول دار ، وهما سواء في القوة ، وليس لأحدهما على الآخر مزية توجب تقديمه ; فإنهما يتمانعان فلا يدخل واحد منهما ، وهذا مشتق من دليل التمانع على التوحيد ، وهو أنه يستحيل أن يكون للعالم فاعلان مستقلان بالفعل ; فإن استقلال كل منهما ينفي استقلال الآخر ، فاستقلالهما يمنع استقلالهما ، ووازنه في هذه المسألة أن وقوعهما يمنع وقوعهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية