صفحة جزء
[ مسائل عديدة من الدور الحكمي ]

قالوا : وغاية ما في هذا الباب استلزام هذا التعليق لدور حكمي يمنع وقوع المعلق والمنجز ، ونحن نريكم من مسائل الدور التي يفضي وقوعها إلى عدم وقوعها كثيرا ، منها ما ذكرناه ، ومنها ما لو وجد من أحدهما ريح وشك كل واحد منهما هل هي منه أو من صاحبه ، لم يجز اقتداء أحدهما بالآخر ; لأن اقتداءه به يبطل اقتداءه ، وكذلك لو كان معهما إناءان أحدهما نجس فأدى اجتهاد كل منهما إلى إناء لم تجز القدوة بينهما ; لأنها تفضي إلى إبطال القدوة ، وكذلك إذا اجتهدا في الثوبين والمكانين ، ومنها لو زوج عبده حرة وضمن السيد مهرها ثم باعه لزوجه قبل الدخول بها فالبيع باطل ; لأن صحته تؤدي إلى فساده ، إذ لو صح لبطل النكاح ; لأنها إذا ملكت زوجها بطل نكاحها ، وإذا بطل سقط مهرها ; لأن الفرقة من جهتها ، وإذا سقط مهرها وهو الثمن بطل البيع والعتق ألبتة ، بل إما أن يصح البيع ولا يقع العتق إذ لو وقع العتق لبطل البيع ، وإذا بطل بطل العتق ; فوقوعه يؤدي إلى عدم وقوعه .

وهذا قول المزني وقال ابن سريج : لا يصح بيعه ; لأنه لو صح لوقع العتق قبله ، ووقوع العتق قبله يمنع صحة البيع ، فصحة البيع تمنع صحته ، وكذلك لو قال له : " إذا رهنتك فأنت حر قبله بساعة " وكذلك لو قال لعبيده ولا مال له سواهم وقد أفلس : " إن حجر الحاكم علي فأنتم أحرار قبل الحجر بيوم " لم يصح الحجر ; لأن صحته تمنع صحته ، ومثاله لو قال [ ص: 199 ] لعبده : " متى صالحت عليك فأنت حر قبل الصلح " ومثله لو قال لامرأته : " إن صالحت فلانا وأنت امرأتي فأنت طالق قبله بساعة " لم يصح الصلح ; لأن صحته تمنع صحته

ومثله لو قال لعبده : " متى ضمنت عنك صداق امرأتك فأنت حر قبله إن كنت في حال الضمان مملوكي " ثم ضمن عنه الصداق لم يصح ; لأنه لو صح لعتق قبله ، وإذا عتق قبله لم يصادف الضمان شرطه ، وهو كونه مملوكه وقت الضمان ، وكذلك لا يقع العتق ; لأن وقوعه يؤدي إلى أن لا يصح الضمان عنه ، وإذا لم يصح الضمان عنه لم يصح العتق ، فكل من الضمان والعتق تؤدي صحته إلى بطلانه ; فلا يصح واحد منهما ، ومثله ما لو قال : " إن شاركني في هذا العبد شريك فهو حر قبله بساعة " لم تصح الشركة فيه بعد ذلك ; لأنها لو صحت لعتق العبد وبطلت الشركة ، فصحتها تفضي إلى بطلانها ، ومثله لو قال : " إن وكلت إنسانا ببيع هذا العبد أو رهنه أو هبته وكالة صحيحة فهو قبلها بساعة حر " لم تصح الوكالة ; لأن صحتها تؤدي إلى بطلانها .

ومثله ما لو قال لامرأته : " إن وكلت وكيلا في طلاقك فأنت طالق قبله أو معه ثلاثا " لم يصح توكيله في طلاقها ; إذ لو صحت الوكالة لطلقت في حال الوكالة أو قبلها ، فتبطل الوكالة ، فصحتها تؤدي إلى بطلانها ، وكذلك لو خلف الميت ابنا ، فأقر بابن آخر للميت ، فقال المقر به : " أنا ابنه ، وأما أنت فلست بابنه " لم يقبل إنكار المقر به ; لأن قبول قوله يبطل قوله ، ومن هاهنا قال الشافعي : لو ترك أخا لأب وأم فأقر الأخ بابن للميت ثبت نسبه ولم يرث ; لأنه لو ورث لخرج المقر عن أن يكون وارثا ، وإذا لم يكن وارثا لم يقبل إقراره بوارث آخر ، فتوريث الابن يفضي إلى عدم توريثه ، ونازعه الجمهور في ذلك ، وقالوا : إذا ثبت نسبه ترتب عليه أحكام النسب ، ومنها الميراث ، ولا يفضي توريثه إلى عدم توريثه ; لأنه بمجرد الإقرار يثبت النسب ويترتب عليه الميراث والأخ كان وارثا في الظاهر ، فحين أقر كان هو كل الورثة ، وإنما خرج عن الميراث بعد الإقرار وثبوت النسب ; فلم يكن توريث الابن مبطلا لكون المقر وارثا حين الإقرار ، وإن بطل كونه وارثا بعد الإقرار وثبوت النسب ، وأيضا فالميراث تابع لثبوت النسب ، والتابع أضعف من المتبوع ، فإذا ثبت المتبوع الأقوى فالتابع أولى . ألا ترى أن النساء تقبل شهادتهن منفردات في الولادة ثم في النسب ، ونظائر ذلك كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية