صفحة جزء
[ من ترد شهادته ] .

قوله : " والمسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا مجربا عليه شهادة زور ، أو مجلودا في حد ، أو ظنينا في ولاء أو قرابة " لما جعل الله سبحانه هذه الأمة أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس - والوسط : العدل الخيار - كانوا عدولا بعضهم على بعض ، إلا من قام به مانع الشهادة ، وهو أن يكون قد جرب عليه شهادة الزور ; فلا يوثق بعد ذلك بشهادته ، أو من جلد في حد لأن الله سبحانه نهى عن قبول شهادته ، أو متهم بأن يجر إلى نفسه نفعا من المشهود له كشهادة السيد لعتيقه بمال أو شهادة العتيق لسيده إذا كان في عياله أو منقطعا إليه يناله نفعه ، وكذلك شهادة القريب لقريبه لا تقبل مع التهمة ، وتقبل بدونها ، هذا هو الصحيح .

[ شهادة القريب لقريبه أو عليه ]

وقد اختلف الفقهاء في ذلك : فمنهم جوز شهادة القريب لقريبه مطلقا كالأجنبي ، ولم يجعل القرابة مانعة من الشهادة بحال ، كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر ، وهؤلاء يحتجون بالعمومات التي لا تفرق بين أجنبي وقريب ، وهؤلاء أسعد بالعمومات ، ومنعت طائفة شهادة الأصول للفروع والفروع للأصول خاصة ، وجوزت شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض ، ، وهذا مذهب الشافعي وأحمد ، وليس مع هؤلاء نص صريح صحيح بالمنع .

واحتج الشافعي بأنه لو قبلت شهادة الأب لابنه لكانت شهادة منه لنفسه لأنه منه ; وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها } قالوا : وكذلك بنو البنات ، فقد { قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن : إن ابني هذا سيد } قال الشافعي فإذا شهد له فإنما يشهد لشيء منه ، قال : وبنوه هم منه ، فكأنه شهد لبعضه ، قالوا : والشهادة ترد بالتهمة ، والوالد متهم في ولده فهو ظنين في قرابته ، قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأولاد { إنكم لتبخلون وتجبنون ، وإنكم لمن ريحان الله } وفي أثر آخر { الولد مبخلة مجبنة } قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { أنت ومالك لأبيك } فإذا كان مال الابن لأبيه فإذا شهد له الأب بمال كان قد شهد به لنفسه ، قالوا : وقد قال أبو عبيد : ثنا جرير عن معاوية عن يزيد الجزري [ ص: 88 ] قال : أحسبه يزيد بن سنان ، قال الزهري : عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ظنين في ولاء أو قرابة ولا مجلود } قالوا : ولأن بينهما من البعضية والجزئية ما يمنع قبول الشهادة ، كما منع من إعطائه من الزكاة ، ومن قتله بالولد ، وحده بقذفه ; قالوا : ولهذا لا يثبت له في ذمته دين عند جماعة من أهل العلم ، ولا يطالب به ، ولا يحبس من أجله ، قالوا : وقد قال تعالى : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم } ولم يذكر بيوت الأبناء لأنها داخلة في بيوتهم أنفسهم ، فاكتفى بذكرها دونها ، وإلا فبيوتهم أقرب من بيوت من ذكر في الآية : قالوا : وقد قال تعالى : { وجعلوا له من عباده جزءا } أي ولدا ، فالولد جزء ; فلا تقبل شهادة الرجل في جزئه .

قالوا : وقد قال صلى الله عليه وسلم : { إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه } فكيف يشهد الرجل لكسبه ؟ قالوا : والإنسان متهم في ولده ، مفتون به ، كما قال تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } فكيف تقبل شهادة المرء لمن قد جعل مفتونا به ؟ والفتنة محل التهمة .

فصل قال الآخرون : قال الله تعالى : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وقال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وقد قال تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقد قال تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } وقال : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم } ولا ريب في دخول الآباء والأبناء والأقارب في هذا اللفظ كدخول الأجانب ; وتناولها للجميع بتناول واحد ، هذا مما لا يمكن دفعه ، ولم يستثن الله سبحانه ولا رسوله من ذلك أبا ولا ولدا ولا أخا ولا قرابة ، ولا أجمع المسلمون على استثناء أحد من هؤلاء ; فتلزم الحجة بإجماعهم .

وقد ذكر عبد الرزاق عن أبي بكر بن أبي سبرة عن أبي الزناد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تجوز شهادة الوالد لولده ، والولد لوالده ، والأخ لأخيه ، وعن عمرو بن سليم الزرقي عن سعيد بن المسيب مثل هذا [ ص: 89 ]

وقال ابن وهب : ثنا يونس عن الزهري قال : لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا الأخ لأخيه ، ولا الزوج لامرأته ، ثم دخل الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة ، وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة ، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان .

وقال أبو عبيد : حدثني الحسن بن عازب عن جده شبيب بن غرقدة قال : كنت جالسا عند شريح ، فأتاه علي بن كاهل وامرأة وخصم ، فشهد لها علي بن كاهل وهو زوجها ، وشهد لها أبوها ، فأجاز شريح شهادتهما ، فقال الخصم : هذا أبوها وهذا زوجها ، فقال له شريح : أتعلم شيئا تجرح به شهادتهما ؟ كل مسلم شهادته جائزة .

وقال عبد الرزاق : ثنا سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة قال : سمعت شريحا أجاز لامرأة شهادة أبيها وزوجها ، فقال له الرجل : إنه أبوها وزوجها ، وقال شريح : فمن يشهد للمرأة إلا أبوها وزوجها ؟ وقال أبو بكر بن أبي شيبة : ثنا شبابة عن ابن أبي ذئب عن سليمان قال : شهدت لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، فقضى بشهادتي .

وقال عبد الرزاق : ثنا معمر عن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري قال : أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الابن لأبيه إذا كان عدلا .

قالوا : فهؤلاء عمر بن الخطاب وجميع السلف وشريح وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يجيزون شهادة الابن لأبيه والأب لابنه ، قال ابن حزم : وبهذا يقول إياس بن معاوية وعثمان البتي وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والمزني وأبو سليمان وجميع أصحابنا ، يعني داود بن علي وأصحابه .

وقد ذكر الزهري أن الذين ردوا شهادة الابن لأبيه والأخ لأخيه هم المتأخرون ، وأن السلف الصالح لم يكونوا يردونها .

قالوا : وأما حجتكم على المنع فمدارها على شيئين : أحدهما : البعضية التي بين الأب وابنه وأنها توجب أن تكون شهادة أحدهما للآخر شهادة لنفسه ، وهذه حجة ضعيفة ; فإن هذه البعضية لا توجب أن تكون كبعضه في الأحكام ، [ ص: 90 ] لا في أحكام الدنيا ، ولا في أحكام الثواب والعقاب ; فلا يلزم من وجوب شيء على أحدهما أو تحريمه وجوبه على الآخر وتحريمه من جهة كونه بعضه ، ولا من وجوب الحد على أحدهما وجوبه على الآخر ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يجني والد على ولده } فلا يجنى عليه ، ولا يعاقب بذنبه ، ولا يثاب بحسناته ، ولا يجب عليه الزكاة ولا الحج بغنى الآخر ، ثم قد أجمع الناس على صحة بيعه منه وإجارته ومضاربته ومشاركته ، فلو امتنعت شهادته له لكونه جزءاه فيكون شاهدا لنفسه لامتنعت هذه العقود ، إذ يكون عاقدا لها مع نفسه .

فإن قلتم : هو متهم بشهادته له ، بخلاف هذه العقود ; فإنه لا يتهم فيها معه .

قيل : هذا عود منكم إلى المأخذ الثاني ، وهو مأخذ التهمة فيقال : التهمة وحدها مستقلة بالمنع ، سواء كان قريبا أو أجنبيا ، ولا ريب أن تهمة الإنسان في صديقه وعشيره ومن يعنيه مودته ومحبته أعظم من تهمته في أبيه وابنه ، والواقع شاهد بذلك ، وكثير من الناس يحابي صديقه وعشيره وذا وده أعظم مما يحابي أباه وابنه .

فإن قلتم : الاعتبار بالمظنة ، وهي التي تنضبط ، بخلاف الحكمة ; فإنها لانتشارها وعدم انضباطها لا يمكن التعليل بها .

قيل : هذا صحيح في الأصناف التي شهد لها الشرع بالاعتبار ، وعلق بها الأحكام ، دون مظانها ، فأين علق الشارع عدم قبول الشهادة بوصف الأبوة أو البنوة أو الأخوة ؟ والتابعون إنما نظروا إلى التهمة ، فهي الوصف المؤثر في الحكم ، فيجب تعليق الحكم به وجودا وعدما ، ولا تأثير لخصوص القرابة ولا عمومها ، بل قد توجد القرابة حيث لا تهمة ، وتوجد التهمة حيث لا قرابة ، والشارع إنما علق قبول الشهادة بالعدالة وكون الشاهد مرضيا ، وعلق عدم قبولها بالفسق ، ولم يعلق القبول والرد بأجنبية ولا قرابة .

قالوا : وأما قولكم : " إنه غير متهم معه في تلك العقود " فليس كذلك ، بل هو متهم معه في المحاباة ، ومع ذلك فلا يوجب ذلك إبطالها ، ولهذا لو باعه في مرض موته ولم يحابه لم يبطل البيع ، ولو حاباه بطل في قدر المحاباة ، فعلق البطلان بالتهمة لا بمظنتها .

قالوا : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : { أنت ومالك لأبيك } فلا يمنع شهادة الابن لأبيه ، فإن الأب ليس هو وماله لابنه ، ولا يدل الحديث على [ عدم ] قبول شهادة أحدهما للآخر ، والذي دل عليه الحديث أكثر منازعينا لا يقولون به ، بل عندهم أن مال الابن له حقيقة وحكما ، وأن الأب لا يتملك عليه منه شيئا ، والذي لم يدل عليه الحديث حملتموه إياه ، والذي دل عليه لم تقولوا به ، ونحن نتلقى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها بالقبول والتسليم ونستعملها في [ ص: 91 ] وجوهها ، ولو دل قوله : { أنت ومالك لأبيك } على أن لا تقبل شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده لكنا أول ذاهب إلى ذلك ، ولما سبقتمونا إليه ، فأين موضع الدلالة ؟ واللام في الحديث ليست للملك قطعا ، وأكثركم يقول ولا للإباحة إذ لا يباح مال الابن لأبيه ، ولهذا فرق بعض السلف فقال : تقبل شهادة الابن لأبيه ، ولا تقبل شهادة الأب لابنه ، وهو إحدى الروايتين عن الحسن والشعبي ، ونص عليه أحمد في رواية عنه ، ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث ، وإلا تعطلت فائدته ودلالته ، ولا يلزم من إباحة أخذه ما شاء من ماله أن لا تقبل شهادته له بحال ، مع القطع أو ظهور انتفاء التهمة ، كما لو شهد له بنكاح أو حد أو ما لا تلحقه به تهمة .

قالوا : وأما كونه لا يعطى من زكاته ، ولا يقاد به ، ولا يحد به ، ولا يثبت له في ذمته دين ، ولا يحبس به ; فالاستدلال إنما يكون بما ثبت بنص أو إجماع ، وليس معكم شيء من ذلك ، فهذه مسائل نزاع لا مسائل إجماع ، ولو سلم ثبوت الحكم فيها أو في بعضها لم يلزم منه عدم قبول شهادة أحدهما للآخر حيث تنتفي التهمة ; ولا تلازم بين قبول الشهادة وجريان القصاص وثبوت الدين له في ذمته لا عقلا ولا شرعا ، فإن تلك الأحكام اقتضتها الأبوة التي تمنع من مساواته للأجنبي في حده به ، وإقادته منه ، وحبسه بدينه ، فإن منصب أبوته يأبى ذلك ، وقبحه مركوز في فطر الناس ، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح وأما الشهادة فهي خبر يعتمد الصدق والعدالة ، فإذا كان المخبر به صادقا مبرزا في العدالة غير متهم في الإخبار فليس قبول قوله قبيحا عند المسلمين ، ولا تأتي الشريعة برد خبر المخبر به واتهامه .

قالوا : والشريعة مبناها على تصديق الصادق وقبول خبره ، وتكذيب الكاذب ، والتوقف في خبر الفاسق المتهم ; فهي لا ترد حقا ، ولا تقبل باطلا .

قالوا : وأما حديث عائشة فلو ثبت لم يكن فيه دليل فإنه إنما يدل على عدم قبول شهادة المتهم في قرابته أو ذي ولاية ، ونحن لا نقبل شهادته إذا ظهرت تهمته ، ثم منازعونا لا يقولون بالحديث ، فإنهم لا يردون شهادة كل قرابة ، والحديث ليس فيه تخصيص لقرابة الإيلاد بالمنع ، وإنما فيه تعليق المنع بتهمة القرابة ، فألغيتم وصف التهمة ، وخصصتم وصف القرابة بفرد منها ; فكنا نحن أسعد بالحديث منكم ، وبالله التوفيق .

وقد قال محمد بن الحكم : إن أصحاب مالك يجيزون شهادة الأب والابن والأخ والزوج والزوجة على أنه وكل فلانا ; ولا يجيزون شهادتهم أن فلانا وكله ; لأن الذي يوكل لا يتهمان عليه في شيء [ ص: 92 ]

وأما شهادة الأخ لأخيه فالجمهور يجيزونها ، وهو الذي في التهذيب من رواية ابن القاسم عن مالك ، إلا أن يكون في عياله .

وقال بعض المالكية : لا تجوز إلا على شرط ; ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : هو أن يكون مبرزا في العدالة ، وقال بعضهم : إذا لم تنله صلته ، وقال أشهب : تجوز في اليسير دون الكثير ، فإن كان مبرزا جاز في الكثير ، وقال بعضهم : تقبل مطلقا إلا فيما تصح فيه التهمة ، مثل أن يشهد له بما يكسب به الشاهد شرفا وجاها .

والصحيح أنه تقبل شهادة الابن لأبيه والأب لابنه فيما لا تهمة فيه ، ونص عليه أحمد ; فعنه في المسألة ثلاث روايات : المنع ، والقبول فيما لا تهمة فيه ، والتفريق بين شهادة الابن لأبيه فتقبل وشهادة الأب لابنه فلا تقبل ، واختار ابن المنذر القبول كالأجنبي .

وأما شهادة أحدهما على الآخر فنص الإمام أحمد على قبولها ، وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } .

وقد حكى بعض أصحاب أحمد عنه رواية ثانية أنها لا تقبل ; قال صاحب المغني : ولم أجد في الجامع ، يعني جامع الخلال ، خلافا عن أحمد أنها تقبل .

وقال بعض الشافعية : لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حد قذف ، قال : لأنه لا يقتل بقتله ، ولا يحد بقذفه ، وهذا قياس ضعيف جدا ، فإن الحد والقتل في صورة المنع لكون المستحق هو الابن ، وهنا المستحق أجنبي .

ومما يدل على أن احتمال التهمة بين الولد ووالده لا يمنع قبول الشهادة أن شهادة الوارث لمورثه جائزة بالمال وغيره ، ومعلوم أن تطرق التهمة إليه مثل تطرقها إلى الوالد والولد ، وكذلك شهادة الابنين على أبيهما بطلاق ضرة أمهما جائزة ، مع أنها شهادة للأم ، ويتوفر حظها من الميراث ، ويخلو لها وجه الزوج ، ولم ترد هذه الشهادة باحتمال التهمة ; فشهادة الوالد لوالده وعكسه بحيث لا تهمة هناك أولى بالقبول ، وهذا هو القول الذي ندين الله به ، وبالله التوفيق

التالي السابق


الخدمات العلمية