صفحة جزء
فصل

فلنرجع إلى المقصود ، وهو بيان بطلان هذه الحيل على التفصيل ، وأنها لا تتمشى لا على قواعد الشرع ومصالحه وحكمه ولا على أصول الأئمة [ إبطال حيلة لتصحيح وقف الإنسان على نفسه ]

قال شيخنا : ومن الحيل الجديدة التي لا أعلم بين فقهاء الطوائف خلافا في تحريمها أن يريد الرجل أن يقف على نفسه بعد موته على جهات متصلة ، فيقول له أرباب الحيل : أقر أن هذا المكان الذي بيدك وقف عليك من غيرك ، ويعلمونه الشروط التي يريد إنشاءها ، فيجعلها إقرارا ; فيعلمونه الكذب في الإقرار ، ويشهدون على الكذب وهم يعلمون ، ويحكمون بصحته ، ولا يستريب مسلم في أن هذا حرام ; فإن الإقرار شهادة من الإنسان على نفسه ، فكيف يلقن شهادة الزور ويشهد عليه بصحتها ؟ ثم إن كان وقف الإنسان على نفسه باطلا في دين الله فقد علمتموه حقيقة الباطل ; فإن الله تعالى قد علم أن هذا لم يكن وقفا قبل الإقرار ، ولا صار وقفا بالإقرار الكاذب ، فيصير المال حراما على من يتناوله إلى يوم القيامة ، وإن كان وقف الإنسان على نفسه صحيحا فقد أغنى الله تعالى عن تكلف الكذب .

قلت : ولو قيل إنه مسألة خلاف يسوغ فيها الاجتهاد فإذا وقفه على نفسه كان لصحته مساغ لما فيه من الاختلاف لساغ ، وأما الإقرار بوقفه من غير إنشاء متقدم فكذب بحت ، ولا يجعله ذلك وقفا اتفاقا ، إذ أخذ الإقرار على حقيقته ، ومعلوم قطعا أن تقليد الإنسان لمن يفتي بهذا القول ويذهب إليه أقرب إلى الشرع والعقل من توصله إليه بالكذب والزور [ ص: 226 ] والإقرار الباطل ; فتقليد عالم من علماء المسلمين أعذر عند الله من تلقين الكذب والشهادة عليه .

فصل

ولهم حيلة أخرى - وهي أن الذي يريد الوقف يملكه لبعض من يثق به ثم يقفه ذلك المملك عليه بحسب اقتراحه - وهذا لا شك في قبحه وبطلانه ; فإن التمليك المشروع المعقول أن يرضى المملك بنقل الملك إلى المملك بحيث يتصرف فيه بما يجب من وجوه التصرفات ، وهنا قد علم الله تعالى والحفظة الموكلون بالعبد ومن يشاهدهم من بني آدم من هذا المملك أنه لم يرض بنقل الملك إلى هذا ، ولا خطر له على بال ، ولو سأله درهما واحدا فلعله كان لم يسمح به عليه ، ولم يرض بتصرفه فيه إلا بوقفه على المملك خاصة ، بل قد ملكه إياه بشرط أن يتبرع عليه به وقفا إما بشرط مذكور وإما بشرط معهود متواطأ عليه ، وهذا تمليك فاسد قطعا ، وليس بهبة ولا صدقة ولا هدية ولا وصية ولا إباحة ، وليس هذا بمنزلة العمرى والرقبى المشروط فيها العود إلى المعمر ، فإن هناك ملكه التصرف فيه ، وشرط العود ، وهنا لم يملكه شيئا ، وإنما تكلم بلفظ التمليك غير قاصد معناه ، والموهوب له يصدقه أنهما لم يقصدا حقيقة الملك ، بل هو استهزاء بآيات الله وتلاعب بحدوده ، وسنذكر إن شاء الله في الفصل الذي بعد هذا الطريق الشرعية المغنية عن هذه الحيلة الباطلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية