صفحة جزء
فصل :

[ إبطال حيلة لتأجير الوقف مدة طويلة ]

ومن الحيل الباطلة : تحيلهم على إيجار الوقف مائة سنة مثلا ، وقد شرط الواقف ألا يؤجر أكثر من سنتين أو ثلاثا ; فيؤجره المدة الطويلة في عقود متفرقة في مجلس واحد ، وهذه الحيلة باطلة قطعا ، فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتبة على طول مدة الإجارة ، فإنها مفاسد كثيرة جدا ، وكم قد ملك من الوقوف بهذه الطرق وخرج عن الوقفية بطول المدة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنين بعد سنين ؟ وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقف بالإيجار الطويل ؟ وكم أوجر الوقف بدون إجارة مثله لطول المدة وقبض الأجرة ؟ وكم زادت أجرة الأرض أو العقار أضعاف ما كانت ولم يتمكن الموقوف عليه من استيفائها ؟ وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العد ، والواقف إنما قصد دفعها ، وخشي منها بالإجارة الطويلة ، فصرح بأنه لا يؤجر أكثر من تلك المدة التي شرطها ، [ ص: 227 ] فإيجاره أكثر منها سواء كان في عقد أو عقود مخالفة صريحة لشرطه ، مع ما فيها من المفسدة بل المفاسد العظيمة .

ويا لله العجب ، هل تزول هذه المفاسد بتعدد العقود في مجلس واحد ؟ وأي غرض للعاقل أن يمنع الإجارة لأكثر من تلك المدة ثم يجوزها في ساعة واحدة ، في عقود متفرقة ؟ وإذا أجره في عقود متفرقة أكثر من ثلاث سنين ، أيصح أن يقال : وفى بشرط الواقف ولم يخالفه ؟ هذا من أبطل الباطل وأقبح الحيل ، وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه ، وتعريض لإبطال هذه الصدقة ، وأن لا يستمر نفعها ، وألا يصل إلى من بعد الطبقة الأولى وما قاربها ، فلا يحل لمفت أن يفتي بذلك ، ولا لحاكم أن يحكم به ، ومتى حكم به نقض حكمه ، اللهم إلا أن يكون فيه مصلحة الوقف ، بأن يخرب ويتعطل نفعه فتدعو الحاجة إلى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الأجرة ، فهنا يتعين مخالفة شرط الواقف تصحيحا لوقفه واستمرارا لصدقته ، وقد يكون هذا خيرا من بيعه والاستبدال به ، وقد يكون البيع أو الاستبدال خيرا من الأجرة ، والله يعلم المفسد من المصلح .

والذي يقضي منه العجب التحيل على مخالفة شرط الواقف وقصده الذي يقطع بأنه قصده مع ظهور المفسدة ، والوقوف مع ظاهر شرطه ولفظه المخالف لقصده والكتاب والسنة ومصلحة الموقوف عليه ، بحيث يكون مرضاة الله ورسوله ومصلحة الواقف وزيادة أجره ومصلحة الموقوف عليه وحصول الرفق به مع كون العمل أحب إلى الله ورسوله ، لا يغير شرط الواقف ، ويجري مع ظاهر لفظه ، وإن ظهر قصده بخلافه .

وهل هذا إلا من قلة الفقه ؟ بل من عدمه ، فإذا تحيلتم على إبطال مقصود الواقف حيث يتضمن المفاسد العظيمة فهلا تحيلتم على مقصوده ومقصود الشارع حيث يتضمن المصالح الراجحة بتخصيص لفظه أو تقييده أو تقديم شرط الله عليه ؟ فإن شرط الله أحق وأوثق ، بل يقولون ها هنا : نصوص الواقف كنصوص الشارع ، وهذه جملة من أبطل الكلام ، وليس لنصوص الشارع نظير من كلام غيره أبدا ، بل نصوص الواقف يتطرق إليها التناقض والاختلاف ، ويجب إبطالها إذا خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها ، ولا حرمة لها حينئذ ألبتة ، ويجوز - بل يترجح - مخالفتها إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله منها وأنفع للواقف والموقوف عليه ، ويجوز اعتبارها والعدول عنها مع تساوي الأمرين ، ولا يتعين الوقوف معها ، وسنذكر إن شاء الله فيما بعد ، ونبين ما يحل الإفتاء به وما لا يحل من شروط الواقفين ; إذ القصد بيان بطلان هذه الحيلة شرعا وعرفا ولغة .

التالي السابق


الخدمات العلمية