صفحة جزء
فصل :

[ إبطال حيلة لحسبان الدين من الزكاة ]

ومن الحيل الباطلة المحرمة أن يكون له على رجل مال ، وقد أفلس غريمه وأيس من [ ص: 240 ] أخذه منه ، وأراد أن يحسبه من الزكاة ، فالحيلة أن يعطيه من الزكاة بقدر ما عليه ، فيصير مالكا للوفاء ، فيطالبه حينئذ بالوفاء ، فإذا أوفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع .

وهذه حيلة باطلة ، سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه أو ملكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه ، فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة ، ولا يعد مخرجا لها لا شرعا ولا عرفا كما لو أسقط دينه وحسبه من الزكاة .

قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دين برهن ، وليس عنده قضاؤه ، ولهذا الرجل زكاة مال ، قال : يفرقه على المساكين ، فيدفع إليه رهنه ، ويقول له : الدين الذي لي عليك هو لك ، ويحسبه من زكاة ماله ، قال : لا يجزئه ذلك ؟ فقلت له : فيدفع إليه زكاته فإن رده إليه قضى مما أخذه من ماله ؟ قال : نعم ; وقال في موضع آخر - وقيل له : فإن أعطاه ثم رده إليه ؟ - قال : إذا كان بحيلة فلا يعجبني ، قيل له : فإن استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه إياها ثم ردها عليه وحسبها من الزكاة ؟ قال : إذا أراد بهذا إحياء ماله فلا يجوز ، ومطلق كلامه ينصرف إلى هذا المقيد ; فيحصل من مذهبه أن دفع الزكاة إلى الغريم جائز ، سواء دفعها ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع ما استوفاه إليه ، إلا أنه متى قصد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز ; لأن الزكاة حق لله وللمستحق ، فلا يجوز صرفها إلى الدافع ، يفوز بنفعها العاجل .

ومما يوضح ذلك أن الشارع منعه من أخذها من المستحق بعوضها ، فقال : " لا تشترها ولا تعد في صدقتك " فجعله بشرائها منه بثمنها عائدا فيها ، فكيف إذا دفعها إليه بنية أخذها منه ؟ قال جابر بن عبد الله : إذا جاء المصدق فادفع إليه صدقتك ، ولا تشترها ، فإنهم كانوا يقولون : " ابتعها " فأقول : إنما هي لله .

وقال ابن عمر : لا تشتر طهور مالك .

وللمنع من شرائه علتان ; إحداهما : أنه يتخذ ذريعة وحيلة إلى استرجاع شيء منها ; لأن الفقير يستحي منه فلا يماكسه في ثمنها ، وربما أرخصها ليطمع أن يدفع إليه صدقة أخرى ، وربما علم أو توهم أنه إن لم يبعه إياها استرجعها منه فيقول : ظفري بهذا الثمن خير من الحرمان .

العلة الثانية : قطع طمع نفسه عن العود في شيء أخرجه لله بكل طريق ، فإن النفس متى طمعت في عوده بوجه ما فآمالها بعد متعلقة به ، فلم تطب به نفسا لله وهي متعلقة به ، فقطع عليها طمعها في العود ، ولو بالثمن ، ليتمحص الإخراج لله ، وهذا شأن النفوس الشريفة ذوات الأقدار والهمم ، أنها إذا أعطت عطاء لم تسمح بالعود فيه بوجه لا بشراء ولا [ ص: 241 ] بغيره ، وتعد ذلك دناءة ، ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته بالكلب يعود في قيئه لخسته ودناءة نفسه وشحه بما قاءه أن يفوته .

فمن محاسن الشريعة منع المتصدق من شراء صدقته ، ولهذا منع من سكنى بلاده التي هاجر منها لله وإن صارت بعد ذلك دار إسلام ، كما { منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد الفتح من الإقامة بمكة فوق ثلاثة أيام ، لأنهم خرجوا عن ديارهم لله ; فلا ينبغي أن يعودوا في شيء تركوه لله } ، وإن زال المعنى الذي تركوها لأجله .

فإن قيل : فأنتم تجوزون له أن يقضي بها دين المدين ، إذا كان المستحق له غيره ، فما الفرق بين أن يكون الدين له أو لغيره ؟ ويحصل للغريم براءة ذمته وراحة من ثقل الدين في الدنيا ومن حمله في الآخرة ؟ فمنفعته ببراءة ذمته خير له من منفعة الأكل والشرب واللباس ؟ فقد انتفع هو بخلاصه من رق الدين ، وانتفع رب المال بتوصله إلى أخذ حقه ، وصار هذا كما لو أقرضه مالا ليعمل فيه ويوفيه دينه من كسبه .

قيل : هذه المسألة فيها روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله ; إحداهما : أنه لا يجوز له أن يقضي دينه من زكاته ، بل يدفع إليه الزكاة ويؤديها هو عن نفسه ، والثانية : يجوز له أن يقضي دينه من الزكاة قال أبو الحارث : قلت للإمام أحمد : رجل عليه ألف ، وكان على رجل زكاة ماله ألف ، فأداها عن هذا الذي عليه الدين ، يجوز هذا من زكاته ؟ قال : نعم ، ما أرى بذلك بأسا ، وعلى هذا فالفرق ظاهر ; لأن الدافع لم ينتفع هاهنا بما دفعه إلى الغريم ، ولم يرجع إليه ، بخلاف ما إذا دفعه إليه ليستوفيه منه ; فإنه قد أحيا ماله بماله ، ووجه القول بالمنع أنه قد يتخذ ذريعة إلى انتفاعه بالقضاء ، مثل أن يكون الدين لولده أو لامرأته أو لمن يلزمه نفقته فيستغني عن الإنفاق عليه ; فلهذا قال الإمام أحمد : أحب إلي أن يدفعه إليه حتى يقضي هو عن نفسه ، قيل : هو محتاج يخاف أن يدفع إليه فيأكله ولا يقضي دينه

قال : فقل له يوكله حتى يقضيه ، والمقصود أنه متى فعل ذلك حيلة لم تسقط عنه الزكاة بما دفعه ; فإنه لا يحل له مطالبة المعسر ، وقد أسقط الله عنه المطالبة ، فإذا توصل إلى وجوبها بما يدفعه إليه فقد دفع إليه شيئا ثم أخذه ، فلم يخرج منه شيء ، فإنه لو أراد الآخذ التصرف في المأخوذ وسد خلته منه لما مكنه ، فهذا هو الذي لا تسقط عنه الزكاة ، فأما لو أعطاه عطاء قطع طمعه من عوده إليه وملكه ظاهرا وباطنا ثم دفع إليه الآخذ دينه من الزكاة فهذا جائز كما لو أخذ الزكاة من غيره ثم دفعها إليه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية