صفحة جزء
[ أرباب الحيل نوعان ]

ثم أرباب هذه الحيل نوعان : نوع يقصد به حصول مقصوده ، ولا يظهر أنه حلال ، كحيل اللصوص وعشاق الصور المحرمة ونحوهما ، ونوع يظهر صاحبه أن مقصوده خير وصلاح ويبطن خلافه .

وأرباب النوع الأول أسلم عاقبة من هؤلاء ; فإنهم أتوا البيوت من أبوابها والأمر من طريقه ووجهه ، وأما هؤلاء فقلبوا موضوع الشرع والدين ، ولما كان أرباب هذا النوع إنما يباشرون الأسباب الجائزة ولا يظهرون مقاصدهم أعضل أمرهم ، وعظم الخطب بهم ، وصعب الاحتراز منهم ، وعز على العالم استنقاذ قتلاهم ، فاستبيحت بحيلهم الفروج ، وأخذت بها الأموال من أربابها فأعطيت لغير أهلها ، وعطلت بها الواجبات ، وضيعت بها الحقوق ، وعجت الفروج والأموال والحقوق إلى ربها عجيجا ، وضجت مما حل بها إليه ضجيجا ، ولا يختلف المسلمون أن تعليم هذه الحيل حرام ، والإفتاء بها حرام ، والشهادة على مضمونها حرام ، والحكم بها مع العلم بحالها حرام ، والذي جوزوا منها ما جوزوا من [ ص: 259 ]

الأئمة لا يجوز أن يظن بهم أنهم جوزوه على وجه الحيلة إلى المحرم ، وإنما جوزوا صورة ذلك الفعل .

ثم إن المتحيل المخادع المكار أخذ صورة ما أفتوا به فتوسل به إلى ما منعوا منه ، وركب ذلك على أقوالهم وفتاواهم ، وهذا فيه الكذب عليهم وعلى الشارع ، مثاله أن الشافعي رحمه الله تعالى يجوز إقرار المريض لوارثه ; فيتخذه من يريد أن يوصي لوارثه وسيلة إلى الوصية له بصورة الإقرار .

ويقول : هذا جائز عند الشافعي ، وهذا كذب على الشافعي ; فإنه لا يجوز الوصية للوارث بالتحيل عليها بالإقرار ; فكذلك الشافعي يجوز للرجل إذا اشترى من غيره سلعة بثمن أن يبيعه إياها بأقل مما اشتراها منه بناء على ظاهر السلامة . ولا يجوز ذلك حيلة على بيع مائة بمائة وخمسين إلى سنة ; فالذي يسد الذرائع يمنع ذلك ويقول : هو يتخذ حيلة إلى ما حرمه الله ورسوله ، فلا يقبل إقرار المريض لوارثه ، ولا يصح هذا البيع . ولا سيما فإن إقرار المرء شهادة على نفسه ، فإذا تطرق إليها التهمة بطلت كالشهادة على غيره . والشافعي يقول : أقبل إقراره إحسانا للظن بالمقر ، وحملا لإقراره على السلامة ، ولا سيما عند الخاتمة .

ومن هذا الباب احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج بما يعلمه إياها أرباب المكر والاحتيال ، بأن تنكر أن تكون أذنت للولي ، أو بأن النكاح لم يصح ; لأن الولي أو الشهود جلسوا وقت العقد على فراش حرير ، أو استندوا إلى وسادة حرير .

وقد رأيت من يستعمل هذه الحيلة إذا طلق الزوج امرأته ثلاثا ، وأراد تخليصه من عار التحليل وشناره أرشده إلى القدح في صحة النكاح بفسق الولي أو الشهود ، فلا يصح الطلاق في النكاح الفاسد . وقد كان النكاح صحيحا لما كان مقيما معها عدة سنين ، فلما أوقع الطلاق الثلاث فسد النكاح .

ومن هذا احتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه لم يكن بالغا وقت العقد ، أو لم يكن رشيدا ، أو كان محجورا عليه ، أو لم يكن المبيع ملكا له ولا مأذونا له في بيعه

التالي السابق


الخدمات العلمية