صفحة جزء
المثال الثالث : أن يأذن رب الدار للمستأجر أن يكون في الدار ما يحتاج إليه أو يعلف الدابة بقدر حاجتها ، وخاف أن لا يحتسب له ذلك من الأجرة ; فالحيلة في اعتداده به عليه أن يقدر ما يحتاج إليه الدابة أو الدار ، ويسمي له قدرا معلوما ، ويحسبه من الأجرة ، ويشهد على المؤجر أنه قد وكله في صرف ذلك القدر فيما تحتاج إليه الدار أو الدابة .

فإن قيل : فهل تجوزون لمن له دين على رجل أن يوكله في المضاربة به أو الصدقة به أو إبراء نفسه منه أو أن يشتري له شيئا ، ويبرأ المدين إذا فعل ذلك ؟

قيل : هذا مما اختلف فيه وفي صورة المضاربة بالدين قولان في مذهب الإمام أحمد . [ ص: 263 ] أحدهما : أنه لا يجوز ذلك ، وهو المشهور ; لأنه يتضمن قبض الإنسان من نفسه وإبرائه لنفسه من دين الغريم بفعل نفسه ; لأنه متى أخرج الدين وضارب به فقد صار المال أمانة وبرئ منه ; وكذلك إذا اشترى به شيئا أو تصدق به .

والقول الثاني : أنه لا يجوز ، وهو الراجح في الدليل ، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من جواز ذلك ، ولا يقتضي تجويزه مخالفة قاعدة من قواعد الشرع ، ولا وقوعا في محظور من ربا ولا قمار ولا بيع غرر ، ولا مفسدة في ذلك بوجه ما ; فلا يليق بمحاسن الشريعة المنع منه ، وتجويزه من محاسنها ومقتضاها .

وقولهم : " إنه يتضمن إبراء الإنسان لنفسه بفعل نفسه " كلام فيه إجمال يوهم أنه هو المستقل بإبراء نفسه ، وبالفعل الذي به يبرأ ، وهذا إيهام ; فإنه إنما برئ بما أذن له رب الدين من مباشرة الفعل الذي تضمن براءته من الدين ، فأي محذور في أن يفعل فعلا أذن له فيه رب الدين ، ومستحقه يتضمن براءته ؟ فكيف ينكر أن يقع في الأحكام الضمنية التبعية ما لا يقع مثله في المتبوعات ، ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر ؟ حتى لو وكله أو أذن له أن يبرئ نفسه من الدين جاز وملك ذلك ، كما لو وكل المرأة أن تطلق نفسها ; فأي فرق بين أن يقول طلقي نفسك إن شئت ، أو يقول لغريمه : أبري نفسك إن شئت ، وقد قالوا : لو أذن لعبده في التكفير بالمال ملك ذلك على الصحيح ، فلو أذن له في الإعتاق ملكه ، فلو أعتق نفسه صح على أحد القولين ، والقول الآخر لا يصح لمانع آخر ، وهو أن الولاء للمعتق ، والعبد ليس من أهل الولاء ، نعم المحذور أن يملك إبراء نفسه من الدين بغير رضا ربه وبغير إذنه ; فهذا هو المخالف لقواعد الشرع .

فإن قيل : فالدين لا يتعين ، بل هو مطلق كلي ثابت في الذمة ، فإذا أخرج مالا واشترى به أو تصدق به لم يتعين أن يكون هو الدين ، ورب الدين لم يعينه ، فهو باق على إطلاقه .

قيل : هو في الذمة مطلق ، وكل فرد من أفراده طابقه صح أن يعين عنه ويجزئ ، وهذا كإيجاب الرب تعالى الرقبة المطلقة في الكفارة فإنها غير معينة ، ولكن أي رقبة عينها المكلف وكانت مطابقة لذلك المطلق تأدى بها الواجب .

ونظيره هاهنا أن أي فرد عينه وكان مطابقا لما في الذمة تعين وتأدى به الواجب .

وهذا كما يتعين عند الأداء إلى ربه ، وكما يتعين عند التوكيل في قبضه ; فهكذا يتعين عند توكيله لمن هو في ذمته أن يعينه ثم يضارب به أو يتصدق أو يشتري به شيئا ; وهذا محض الفقه وموجب القياس ، وإلا فما الفرق بين تعينه إذا وكل الغير في قبضه والشراء أو التصدق به وبين تعيينه إذا وكل من هو في ذمته أن [ ص: 264 ] يعينه ويضارب أو يتصدق به ؟ فهل يوجب التفريق فقه أو مصلحة لهما أو لأحدهما أو حكمة للشارع فيجب مراعاتها ؟

فإن قيل : تجوزوا على هذا أن يقول له : اجعل الدين عليك رأس مال السلم في كذا وكذا .

قيل : شرط صحة النقض أمران ; أحدهما أن تكون الصورة التي تنقض بها مساوية لسائر الصور في المعنى الموجب للحكم ، الثاني : أن يكون الحكم فيها معلوما بنص أو إجماع ، وكلا الأمرين منتف هاهنا ، فلا إجماع معلوم في المسألة وإن كان قد حكي وليس مما نحن فيه ; فإن المانع من جوازها رأى أنها من باب بيع الدين بالدين ، بخلاف ما نحن فيه ، والمجوز لها يقول : ليس عن الشارع نص عام في المنع من بيع الدين بالدين ، وغاية ما ورد فيه حديث وفيه ما فيه : { أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ } والكالئ : هو المؤخر ، وهذا كما إذا كان رأس مال السلم دينا في ذمة المسلم ، فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق ; لأنه يتضمن شغل الذمتين بغير مصلحة لهما ، وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه فاشترى به شيئا في ذمته فقد سقط الدين من ذمته وخلفه دين آخر واجب فهذا من باب بيع الساقط بالواجب ، فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصة ، فإن بنى المستأجر أو أنفق على الدابة ، وقال : أنفقت كذا وكذا ، وأنكر المؤجر ، فالقول قول المؤجر ; لأن المستأجر يدعي براءة نفسه من الحق الثابت عليه ، والقول قول المنكر .

فإن قيل : فهل ينفعه إشهاد رب الدار أو الدابة على نفسه أنه مصدق فيما يدعي إنفاقه ؟ .

قيل : لا ينفعه ذلك ، وليس بشيء ، ولا يصدق أنه أنفق شيئا إلا ببينة ; لأن مقتضى العقد ألا يقبل قوله في الإنفاق ، ولكن ينتفع بعد الإنفاق بإشهاد المؤجر أنه صادق فيما يدعي أنه أنفقه ، والفرق بين الموضعين أنه بعد الإنفاق مدع ، فإذا صدقه المدعى عليه نفعه ذلك ، وقبل الإنفاق ليس مدعيا ، ولا ينفعه إشهاد المؤجر بتصديقه فيما سوف يدعيه في المستقبل ; فهذا شيء وذاك شيء آخر .

فإن قيل : فما الحيلة على أن يصدق المؤجر المستأجر فيما يدعيه من النفقة ؟

قيل : الحيلة أن يسلف المستأجر رب الدار أو الحيوان من الأجرة ما يعلم أنه بقدر الحاجة ، ويشهد عليه بقبضه ، ثم يدفع رب الدار إلى المستأجر ذلك الذي قبضه منه ، ويوكله في الإنفاق على داره أو دابته ، فيصير أمينه فيصدقه على ما يدعيه إذا كان ذلك نفقة [ ص: 265 ] مثله عرفا ، فإن خرج عن العادة لم يصدق به ، وهذه حيلة لا يدفع بها حقا ، ولا يتوصل بها لمحرم ، ولا يقيم بها باطلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية