صفحة جزء
[ تصرف المدين الذي استغرقت الديون ماله ]

المثال الثاني والسبعون : إن استغرقت الديون ماله لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون ، سواء حجر عليه الحاكم ، أو لم يحجر عليه ، هذا مذهب مالك ، واختيار شيخنا ، وعند الثلاثة يصح تصرفه في ماله قبل الحجر بأنواع التصرف ، والصحيح هو القول الأول .

وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره ، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده ; لأن حق الغرماء قد تعلق بماله ; ولهذا يحجر عليه الحاكم ، ولولا تعلق حق الغرماء بماله ، لم يسع الحاكم الحجر عليه ، فصار كالمريض مرض الموت ; لما تعلق حق الورثة بماله منعه الشارع من التبرع بما زاد على الثلث ، فإن في تمكينه من التبرع بماله إبطال حق الورثة منه .

وفي تمكين هذا المديان من التبرع إبطال حقوق الغرماء ، والشريعة لا تأتي بمثل هذا ; فإنها إنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق ، وسد الطرق المفضية إلى إضاعتها ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله } .

ولا ريب أن هذا التبرع إتلاف لها ، فكيف ينفذ تبرع [ من ] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله ؟ ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي عن بعض علماء عصره من أصحاب أحمد أنه كان ينكر هذا المذهب ويضعفه ، قال : إلى أن بلي بغريم تبرع قبل الحجر عليه ، فقال : والله مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة ، وتبويب البخاري وترجمته واستدلاله يدل على اختياره هذا المذهب ، فإنه قال في باب من رد أمر السفيه والضعيف [ ص: 8 ] وإن لم يكن حجر عليه الإمام : ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على المتصدق قبل النهي ثم نهاه ، فتأمل هذا الاستدلال .

قال عبد الحق : أراد به - والله أعلم - حديث جابر في بيع المدبر ، ثم قال البخاري في هذا الباب نفسه : وقال مالك : إذا كان لرجل على رجل مال ، وله عبد لا شيء له غيره فأعتقه لم يجز عتقه ، ثم ذكر حديث : { من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله } ، وهذا الذي حكاه عن مالك هو في كتب أصحابه ، وقال ابن الجلاب : ولا تجوز هبة المفلس ، ولا عتقه ، ولا صدقته إلا بإذن غرمائه ، وكذلك المديان الذي لم يفلسه غرماؤه في عتقه وهبته وصدقته ، وهذا القول هو الذي لا يختار غيره ، وعلى هذا فالحيلة لمن تبرع غريمه بهبة أو صدقة أو وقف أو عتق ، وليس في ماله سعة له ولدائنه ; أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا التبرع ، ويسأله الحكم ببطلانه ، فإن لم يكن في بلده حاكم يحكم بذلك ، فالحيلة أن يأخذ عليه إذا خاف منه ذلك الضمين أو الرهن ، فإن بادر الغريم وتبرع قبل ذلك فقد ضاقت الحيلة على صاحب الحق ، ولم يبق له غير أمر واحد ، وهو التوصل إلى إقراره بأن ما في يده أعيان أموال الغرماء ، فيمتنع التبرع بعد الإقرار ، فإن قدم تاريخ الإقرار بطل التبرع المتقدم أيضا ، وليست هذه حيلة على إبطال حق ، ولا تحقيق باطل ، بل على إبطال جور وظلم ; فلا بأس بها ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية