صفحة جزء
[ المخارج من التحليل في الطلاق ]

المثال السادس عشر بعد المائة : في المخارج من الوقوع في التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه فاعله والمطلق المحلل له ، فأي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعذر عند الله ورسوله وملائكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يلعن عليه ، ومباءته باللعنة ; فإن هذه المخارج التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما أو أفتى به الصحابة ، بحيث لا يعرف عنهم فيه خلاف ، أو أفتى به بعضهم ، أو هو خارج عن أقوالهم ، أو هو قول جمهور الأمة أو بعضهم أو إمام من الأئمة الأربعة ، أو أتباعهم أو غيرهم من علماء الإسلام ، ولا تخرج هذه القاعدة التي نذكرها عن [ ص: 38 ] ذلك ، فلا يكاد يوصل إلى التحليل بعد مجاوزة جميعها إلا في أندر النادر ، ولا ريب أن من نصح لله ورسوله وكتابه ودينه ، ونصح نفسه ونصح عباده أن أيا منها ارتكب فهو أولى من التحليل .

[ الأول : أن يكون زائل العقل ]

المخرج الأول : أن يكون المطلق أو الحالف زائل العقل إما بجنون أو إغماء أو شرب دواء أو شرب مسكر يعذر به أو لا يعذر أو وسوسة ، وهذا المخلص مجمع عليه بين الأمة إلا في شرب مسكر لا يعذر به ، فإن المتأخرين من الفقهاء اختلفوا فيه ، والثابت عن الصحابة الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم أنه لا يقع طلاقه .

[ طلاق السكران والمكره ]

قال البخاري في صحيحه : باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون ، وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشك لقول النبي صلى الله عليه وسلم { الأعمال بالنية ، ولكل امرئ ما نوى } وتلا الشعبي { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وما لا يجوز من إقرار الموسوس ، { ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أقر على نفسه : أبك جنون } وقال { علي : بقر حمزة خواصر شارفي فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة ، فإذا حمزة قد ثمل محمرة عيناه ثم قال حمزة : هل أنتم إلا عبيد لآبائي ؟ فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ثمل ، فخرج وخرجنا معه } .

قال عثمان : ليس لمجنون ، ولا لسكران طلاق .

وقال ابن عباس : طلاق السكران والمستكره ليس بجائز .

وقال عقبة بن عامر : لا يجوز طلاق الموسوس ، هذا لفظ الترجمة ، ثم ساق بقية الباب ، ولا يعرف عن رجل من الصحابة أنه خالف عثمان وابن عباس في ذلك ، ولذلك رجع الإمام أحمد إلى هذا القول بعد أن كان يفتي بنفوذ طلاقه .

فقال أبو بكر عبد العزيز في كتاب الشافي والزاد : قال أبو عبد الله في رواية الميموني : قد كنت أقول بأن طلاق السكران يجوز ، حتى تبينته ، فغلب علي أنه لا يجوز طلاقه ; لأنه لو أقر لم يلزمه ، ولو باع لم يجز بيعه .

قال : وألزمه الجناية ، وما كان من غير ذلك فلا يلزمه ، قال أبو بكر : وبهذا أقول ، وفي مسائل الميموني : سألت أبا عبد الله عن طلاق السكران ، فقال : أكثر ما عندي فيه أنه لا [ ص: 39 ] يلزمه الطلاق ، قلت : أليس كنت مرة تخاف أن يلزمه ؟ قال : بلى ولكن أكثر ما عندي فيه أنه لا يلزمه الطلاق ; لأني رأيته ممن لا يعقل ، قلت : السكر شيء أدخله على نفسه ، فلذلك يلزمه ، قال : قد يشرب رجل البنج أو الدواء فيذهب عقله ، قلت : فبيعه وشراؤه ، وإقراره ؟ قال : لا يجوز ، وقال في رواية أبي الحارث : أرفع شيء فيه حديث الزهري عن أبان بن عثمان عن عثمان " ليس لمجنون ، ولا سكران طلاق " .

وقال في رواية أبي طالب : والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة ، والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين حرمها عليه ، وأحلها لغيره ، فهذا خير من هذا ، وأنا اتقي جميعها .

وممن ذهب إلى القول بعدم نفوذ طلاق السكران من الحنفية أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن الكرخي ، وحكاه صاحب النهاية عن أبي يوسف وزفر .

ومن الشافعية المزني وابن سريج وجماعة ممن اتبعهما .

وهو الذي اختاره الجويني في النهاية ، والشافعي نص على وقوع طلاقه ، ونص في أحد قوليه على أنه لا يصح ظهاره ، فمن أتباعه من نقل عن الظهار قولا إلى الطلاق ، وجعل المسألة على قولين ، ومنهم من قرر حكم النصين ، ولم يفرق بطائل .

والصحيح أنه لا عبرة بأقواله من طلاق ، ولا عتاق ، ولا بيع ، ولا هبة ، ولا وقف ، ولا إسلام ، ولا ردة ، ولا إقرار ; لبضعة عشر دليلا ليس هذا موضع ذكرها ، ويكفي منها قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } وأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستنكاه ماعز لما أقر بالزنا بين يديه ، وعدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بتجديد إسلامه لما قال في سكره " أنتم عبيد لآبائي " وفتوى عثمان وابن عباس ، ولم يخالفهما أحد من الصحابة ، والقياس الصحيح المحض على زائل العقل بدواء أو بنج أو مسكر هو فيه معذور بمقتضى قواعد الشريعة ; فإن السكران لا قصد له ; فهو أولى بعدم المؤاخذة من اللاغي ، ومن جرى اللفظ على لسانه من غير قصد له ، وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بأنه لا يقع طلاق الموسوس ، وقالوا : لا يقع طلاق المعتوه ، وهو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير ، إلا أنه لا يضرب ، ولا يشتم كما يفعل المجنون .

[ ص: 40 ] فصل :

[ المخرج الثاني ويشتمل على القول في طلاق الغضبان ]

المخرج الثاني : أن يطلق أو يحلف في حال غضب شديد قد حال بينه وبين كمال قصده وتصوره ; فهذا لا يقع طلاقه ، ولا عتقه ، ولا وقفه ، ولو بدرت منه كلمة الكفر في هذا الحال لم يكفر ، وهذا نوع من الغلق والإغلاق الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوع الطلاق والعتاق فيه ، نص على ذلك الإمام أحمد وغيره .

قال أبو بكر بن عبد العزيز في كتاب زاد المسافر له : باب في الإغلاق في الطلاق ، قال أحمد في رواية حنبل : وحديث عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول { لا طلاق ، ولا عتاق في إغلاق } يعني الغضب ، وبذلك فسره أبو داود في سننه عقب ذكره الحديث ، فقال : والإغلاق أظنه الغضب .

وقسم شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه الغضب إلى ثلاثة أقسام : قسم يزيل العقل كالسكر ، فهذا لا يقع معه طلاق بلا ريب .

وقسم يكون في مبادئه بحيث لا يمنعه من تصور ما يقول وقصده ، فهذا يقع معه الطلاق .

وقسم يشتد بصاحبه ، ولا يبلغ به زوال عقله ، بل يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله ، فهذا محل اجتهاد .

والتحقيق أن الغلق يتناول كل من انغلق عليه طريق قصده وتصوره كالسكران والمجنون والمبرسم والمكره والغضبان ، فحال هؤلاء كلهم حال إغلاق ، والطلاق إنما يكون عن وطر ; فيكون عن قصد المطلق وتصور لما يقصده ، فإن تخلف أحدهما لم يقع طلاق ، وقد نص مالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه فيمن قال لامرأته " : أنت طالق ثلاثا " ثم قال : أردت أن أقول إن كلمت فلانا ، أو خرجت من بيتي بغير إذني ، ثم بدا لي فتركت اليمين ، ولم أرد التنجيز في الحال ، إنه لا تطلق عليه ، وهذا هو الفقه بعينه ; لأنه لم يرد التنجيز ، ولم يتم اليمين .

وكذلك لو أراد أن يقول " أنت طاهر " فسبق لسانه فقال " أنت طالق " لم يقع طلاقه ، لا في الحكم الظاهر ، ولا فيما بينه وبين الله تعالى ، نص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين ، والثانية لا يقع فيما بينه وبين الله ، ويقع في الحكم ، وهذا إحدى الروايتين عن أبي يوسف ، وقال ابن أبي شيبة : ثنا محمد بن مروان عن عمارة سئل جابر بن زيد عن رجل غلط بطلاق امرأته ، فقال : ليس على المؤمن غلط ، ثنا وكيع عن إسرائيل عن عامر في رجل أراد أن يتكلم في شيء فغلط ، فقال الشعبي : ليس بشيء .

[ ص: 41 ] فصل :

[ المخرج الثالث ويشتمل على القول في طلاق المكره ]

المخرج الثالث : أن يكون مكرها على الطلاق أو الحلف به عند جمهور الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وهو قول أحمد ومالك والشافعي وجميع أصحابهم ، على اختلاف بينهم في حقيقة الإكراه وشروطه ، قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب : يمين المستكره إذا ضرب .

ابن عمر وابن الزبير لم يرياه شيئا ، وقال في رواية أبي الحارث : إذا طلق المكره لم يلزمه الطلاق ، فإذا فعل به كما فعل بثابت بن الأحنف فهو مكره ; لأن ثابتا عصروا رجله حتى طلق ، فأتى ابن عمر وابن الزبير فلم يريا ذلك شيئا ، وكذا قال الله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } وقال الشافعي : قال عز وجل : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } وللكفر أحكام ، فلما وضعها الله تعالى عنه سقطت أحكام الإكراه عن القول كله ; لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه .

وفي سنن ابن ماجه وسنن البيهقي من حديث بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله وضع عن أمتي } وقال البيهقي { تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي ما توسوس به صدورها ، ما لم تعمل به أو تتكلم به } .

زاد ابن ماجه : { وما استكرهوا عليه } .

وقال الشافعي : روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عليا كرم الله وجهه قال : لا طلاق لمكره ، وذكر الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير وابن عباس : لم يجز طلاق المكره ، وذكر أبو عبيد عن علي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء وعبد الله بن عمير أنهم كانوا يرون طلاقه غير جائز .

وقال ابن أبي شيبة : ثنا عبد الله بن أبي طلحة عن أبي يزيد المديني عن ابن عباس قال : ليس على المكروه ، ولا المضطهد طلاق .

وحدثنا أبو معاوية عن عبد الله بن عمير عن ثابت مولى أهل المدينة عن ابن عمر وابن الزبير كانا لا يريان طلاق المكره شيئا ، ثنا وكيع عن الأوزاعي عن رجل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لم يره شيئا .

قلت : قد اختلف على عمر ، فقال إسماعيل بن أبي أويس : حدثني عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم الجمحي عن أبيه أن رجلا تدلى يشتار عسلا في زمن عمر رضي الله عنه ، فجاءته امرأته فوقفت على الحبل ، فحلفت لتقطعنه أو لتطلقني ثلاثا ، فذكرها الله والإسلام ، فأبت إلا ذلك ، فطلقها ثلاثا . فلما ظهر أتى عمر فذكر له ما كان منها إليه ومنه إليها ، فقال : ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق ، تابعه عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الملك [ ص: 42 ] وهو المشهور عن عمر ، وقال أبو عبيد : حدثني يزيد عن عبد الملك بن قدامة عن أبيه عن عمر بهذا ، ولكنه قال : فرفع إلى عمر فأبانها منه .

قال أبو عبيد : وقد روي عن عمر خلافه ، ولم يصح عن أحد من الصحابة تنفيذ طلاق المكره سوى هذا الأثر عن عمر ، وقد اختلف فيه عنه ، والمشهور أنه ردها إليه ، ولو صح إبانتها منه لم يكن صريحا في الوقوع ، بل لعله رأى من المصلحة التفريق بينهما ، وأنهما لا يتصافيان بعد ذلك ، فألزمه بإبانتها .

ولكن الشعبي وشريحا وإبراهيم يجيزون طلاق المكره حتى قال إبراهيم : لو وضع السيف على مفرقه ثم طلق لأجزت طلاقه .

وفي المسألة مذهب ثالث : قال ابن شيبة : ثنا ابن إدريس عن حصين عن الشعبي في الرجل يكره على أمر من أمر العتاق أو الطلاق ، فقال : إذا أكرهه السلطان جاز ، وإذا أكرهه اللصوص لم يجز ، ولهذا القول غور وفقه دقيق لمن تأمله .

فصل :

واختلفوا في المكره يظن أن الطلاق يقع به فينويه ، هل يلزمه ؟ على قولين وهما وجهان للشافعية ، فمن ألزمه رأى أن النية قد قارنت اللفظ ، وهو لم يكره على النية ، فقد أتى بالطلاق المنوي اختيارا فلزمه ، ومن لم يلزمه به رأى أن لفظ المكره لغو لا عبرة به ، فلم يبق إلا مجرد النية ، وهي لا تستقل بوقوع الطلاق .

فصل :

واختلف في ما لو أمكنه التورية فلم يور ، والصحيح أنه لا يقع به الطلاق ، وإن تركها ; فإن الله تعالى لم يوجب التورية على من أكره على كلمة الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، مع أن التورية هناك أولى ، ولكن المكره إنما لم يعتبر لفظه ; لأنه غير قاصد لمعناه ، ولا مريد لموجبه ، وإنما تكلم به فداء لنفسه من ضرر الإكراه ، فصار تكلمه باللفظ لغوا بمنزلة كلام المجنون والنائم ومن لا قصد له ، سواء ورى أو لم يور .

وأيضا فاشتراط التورية إبطال لرخصة التكلم مع الإكراه ، ورجوع إلى القول بنفوذ طلاق المكره ; فإنه لو ورى بغير إكراه لم يقع طلاقه ، والتأثير إذا إنما هو للتورية لا للإكراه ، وهذا باطل ، وأيضا فإن الموري إنما لم يقع طلاقه مع قصده للتكلم باللفظ ; لأنه لم يقصد مدلوله ، وهذا المعنى بعينه ثابت في الإكراه ، فالمعنى الذي منع من النفوذ في التورية هو الذي منع النفوذ في الإكراه .

التالي السابق


الخدمات العلمية