صفحة جزء
فصل :

فإن قال : " أنت طالق إلا أن يشاء الله " فاختلف الذين يصححون الاستثناء في قوله " أنت طالق إن شاء الله " هاهنا : هل ينفعه الاستثناء ، ويمنع وقوع الطلاق أو لا ينفعه ؟ على قولين ، وهما وجهان لأصحاب الشافعي ، والصحيح عندهم : أنه لا ينفعه الاستثناء ويقع الطلاق ، والثاني : ينفعه الاستثناء ، ولا تطلق ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة ، والذين لم يصححوا الاستثناء احتجوا بأنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة لم تعلم ; إذ المعنى قد وقع عليك الطلاق إلا أن يشاء الله رفعه ، وهذا يقتضي وقوعا منجزا ورفعا معلقا بالشرط ، والذين صححوا الاستثناء قولهم أفقه ; فإنه لم يوقع طلاقا منجزا ، وإنما أوقع طلاقا معلقا على المشيئة .

فإن معنى كلامه أنت طالق إن شاء الله طلاقك ، فإن شاء عدمه لم تطلقي ، بل لا تطلقين إلا بمشيئته ، فهو داخل في الاستثناء من قوله إن شاء الله ، فإنه جعل مشيئة الله لطلاقها شرطا فيه ، وهاهنا أضاف إلى ذلك جعله عدم مشيئته مانعا من طلاقها .

والتحقيق أن كل واحد من الأمرين يستلزم الآخر ; فقوله : " إن شاء الله " يدل على الوقوع عند وجود المشيئة صريحا ، وعلى انتفاء الوقوع عند انتفائها لزوما ، وقوله " : إلا أن يشاء الله " يدل على عدم الوقوع عند عدم المشيئة صريحا ، وعلى الوقوع عندها لزوما فتأمله .

فالصورتان سواء كما سوى بينهما أصحاب أبي حنيفة وغيرهم من الشافعية ، وقولهم " : إنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة لم تعلم " فهذا بعينه يحتج به عليهم من قال : إن الاستثناء لا ينفع في الإيقاع بحال ; فإن صحت هذه الحجة بطل الاستثناء في الإيقاع جملة ، وإن لم يصح لم يصح الفرق ، وهو لم يوقعه مطلقا ، وإنما علقه بالمشيئة نفيا ، وإثباتا كما قررناه ; فالطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع .

وعلى هذا فإذا قال : " إن شاء الله " ، وهو لا يعلم معناها أصلا ، فهل ينفعه هذا الاستثناء ؟ قال أصحاب أبي حنيفة : إذا قال " أنت طالق إن شاء الله " ، ولا يدري أي شيء " إن شاء الله " لا يقع الطلاق ، قالوا : لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع ، فعلمه وجهله سواء ، قالوا : ولهذا لما كان سكوت البكر رضا استوى فيه العلم والجهل ، حتى لو زوجها أبوها فسكتت ، وهي لا تعلم أن السكوت رضا صح النكاح ، ولم يعتبر جهلها .

[ ص: 48 ] ثم قالوا : فلو قال لها " أنت طالق " فجرى على لسانه من غير قصد " إن شاء الله " وكان قصده إيقاع الطلاق لم يقع الطلاق ; لأن الاستثناء قد وجد حقيقة ، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعا ، وهذا القول في طرف وقول من يشترط نية الاستثناء في أول الكلام أو قبل الفراغ منه في طرف آخر ، وبينهما أكثر من بعد المشرقين .

فلو قال : " أنت طالق إن لم يشأ الله ، أو ما لم يشأ الله " فهل يقع الطلاق في الحال أو لا يقع ؟ على قولين ، وهما وجهان في مذهب أحمد ، فمن أوقعه احتج بأن كلامه تضمن أمرين : محالا ، وممكنا ، فالممكن التطليق ، والمحال وقوعه على هذه الصفة ، وهو إذا لم يشأ الله ، فإن ما شاء الله وجب وقوعه ، فيلغو هذا التقييد المستحيل ، ويسلم أصل الطلاق فينفذ .

الوجه الثاني : لا يقع ، ولهذا القول مأخذان : أحدهما : أن تعليق الطلاق على الشرط المحال يمنع من وقوعه ; كما لو قال : " أنت طالق إن جمعت بين الضدين " أو " إن شربت ماء الكوز " ، ولا ماء فيه ; لعدم وقوع شرطه ، فهكذا إذا قال : " أنت طالق إن لم يشأ الله " فهو تعليق للطلاق على شرط مستحيل ، وهو عدم مشيئة الله ، فلو طلقت لطلقت بمشيئته ، وشرط وقوع الطلاق عدم مشيئته .

والمأخذ الثاني : - وهو أفقه - أنه استثناء في المعنى ، وتعليق على المشيئة ، والمعنى إن لم يشأ الله عدم طلاقك ; فهو كقوله " إلا أن يشأ الله " سواء كما تقدم بيانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية