صفحة جزء
فصل :

[ التحقيق في موضوع الاستثناء ]

فالتحقيق في المسألة أن المستثني إما أن يقصد بقوله : " إن شاء الله " التحقيق أو التعليق ; فإن قصد به التحقيق والتأكيد وقع الطلاق ، وإن قصد به التعليق وعدم الوقوع في الحال لم تطلق ، هذا هو الصواب في المسألة ، وهو اختيار شيخنا وغيره من الأصحاب ، وقال أبو عبد الله بن حمدان في رعايته : قلت : إن قصد التأكيد والتبرك وقع ، وإن قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة فلا ، وهذا قول آخر غير الأقوال الأربعة المحكية في المسألة ، وهو أنه إنما ينفعه الاستثناء إذا قصد التعليق ، وكان جاهلا باستحالة العلم بمشيئة الله تعالى فلو علم استحالة العلم بمشيئته تعالى لم ينعقد الاستثناء .

والفرق بين علمه بالاستحالة وجهله بها أنه إذا جهل استحالة العلم بالمشيئة فقد علق الطلاق بما هو ممكن [ ص: 60 ] في ظنه فيصح تعليقه ، وإذا لم يجهل استحالة العلم بالمشيئة فقد علقه على محال يعلم استحالته فلا يصح التعليق ، وهذا أحد الأقوال في تعليقه بالمحال .

قلت : وقولهم : " إن العلم بمشيئة الرب محال " خطأ محض ، فإن مشيئة الرب تعلم بوقوع الأسباب التي تقتضي مسبباتها ; فإن مشيئة المسبب مشيئة لحكمه ، فإذا أوقع عليها بعد ذلك طلاقا علمنا أن الله قد شاء طلاقها .

فهذا تقرير الاحتجاج من الجانبين ، ولا يخفى ما تضمنه من رجحان أحد القولين ، والله أعلم .

فصل :

[ الكلام على نية الاستثناء ومتى تعتمد ؟ ]

وقد قدمنا اختلاف الفقهاء في اشتراط نية الاستثناء وزمنها ، وأن أضيق الأقوال قول من يشترط النية من أول الكلام ، وأوسع منه قول من يشترطها قبل فراغه ، وأوسع منه قول من يجوز إنشاءها بعد الفراغ من الكلام ، كما يقوله أصحاب أحمد وغيرهم .

وأوسع منه قول من يجوزه بالقرب ، ولا يشترط اتصاله بالكلام ، كما نص عليه أحمد في رواية المروزي فقال : حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { والله لأغزون قريشا ، والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال : إن شاء الله } إذ هو استثناء بالقرب ، ولم يخلط كلامه بغيره ، وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سئل أحمد بن حنبل عن الاستثناء في اليمين ، فقال : من استثنى بعد اليمين فهو جائز ، على مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال { : والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال : إن شاء الله } ولم يبطل ذلك ، قال : ولا أقول فيه بقول هؤلاء ، يعني من لم ير ذلك إلا متصلا ، هذا لفظ الشالنجي في مسائله .

وأوسع من ذلك قول من قال : ينفعه الاستثناء ، ويصح ما دام في المجلس ، نص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه ، وهو قول الأوزاعي كما سنذكره .

وأوسع منه من وجه قول من لا يشترط النية بحال ، كما صرح به أصحاب أبي حنيفة ، وقال صاحب الذخيرة في كتاب الطلاق في الفصل السادس عشر منه : ولو قال لها : " أنت طالق إن شاء الله " ولا يدري أي شيء شاء الله لا يقع الطلاق ; لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع ، فعلمه وجهله يكون سواء ، ولو قال لها : " أنت طالق " فجرى على لسانه من غير قصد " إن شاء الله " ، وكان قصده إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق ; لأن الاستثناء قد وجد حقيقة ، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعا .

وقال الجوزجاني في مترجمه : حدثني صفوان ثنا عمر قال : سئل الأوزاعي رحمه الله عن رجل حلف : والله لأفعلن [ ص: 61 ] كذا وكذا ، ثم سكت ساعة لا يتكلم ولا يحدث نفسه بالاستثناء ، فيقول له إنسان إلى جانبه : قل إن شاء الله ، فقال : إن شاء الله ، أيكفر عن يمينه ؟ فقال : أراه قد استثنى .

وبهذا الإسناد عن الأوزاعي أنه سئل عن رجل وصله قريبه بدراهم فقال : والله لا آخذها ، فقال قريبه : والله لتأخذنها ، فلما سمعه قال : " والله لتأخذنها " استثنى في نفسه فقال : إن شاء الله ، وليس بين قوله والله لا آخذها وبين قوله إن شاء الله كلام إلا انتظاره ما يقول قريبه ، أيكفر عن يمينه إن هو أخذها ؟ فقال : لم يحنث ; لأنه قد استثنى .

ولا ريب أن هذا أفقه وأصح من قول من اشترط نيته مع الشروع في اليمين ; فإن هذا القول موافق للسنة الصحيحة فعلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وحكاية عن أخيه سليمان أنه لو قال : " إن شاء الله " بعدما حلف وذكره ذلك كان نافعا له ، وموافقا للقياس ومصالح العباد ومقتضى الحنيفية السمحة ، ولو اعتبر ما ذكر من اشتراط النية في أول الكلام والاتصال الشديد لزالت رخصة الاستثناء ، وقل من انتفع بها إلا من قد درس على هذا القول وجعله منه على بال .

وقد ضيق بعض المالكية في ذلك فقال : لا يكون الاستثناء نافعا إلا وقد أراده صاحبه قبل أن يتمم اليمين كما قال بعض الشافعية .

وقال ابن المواز : شرط نفعه أن يكون مقارنا ، ولو لآخر حرف من حروف اليمين ، ولم يشترط مالك شيئا من ذلك ، بل قال في موطئه ، وهذا لفظ روايته : قال عبد الله بن يوسف : أحسن ما سمعت في الثنيا في اليمين أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه ، وما كان نسقا يتبع بعضه بعضا قبل أن يسكت ، فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له ، انتهى .

ولم أر عن أحد من الأئمة قط اشتراط النية مع الشروع ولا قبل الفراغ ، وإنما هذا من تصرف الأتباع .

فصل :

[ هل يشترط في الاستثناء النطق به ؟ ]

وهل من شرط الاستثناء أن يتكلم به ، أو ينفع إذا كان في قلبه ، وإن لم يتلفظ به ؟ فالمشهور من مذاهب الفقهاء أنه لا ينفعه حتى يتلفظ به ، ونص عليه أحمد فقال في رواية ابن منصور : لا يجوز له أن يستثني

في نفسه حتى يتكلم به ، وقد قال أصحاب أحمد وغيرهم : لو قال : " نسائي طوالق " ، واستثنى بقلبه " إلا فلانة " صح استثناؤه ، ولم تطلق ، ولو قال " : نسائي الأربع طوالق " ، واستثنى بقلبه إلا فلانة لم ينفعه .

وفرقوا بينهما بأن الأول ليس نصا في الأربع ، فجاز تخصيصه بالنية ، بخلاف الثاني ، ويلزمهم على هذا الفرق أن يصح تقييده بالشرط بالنية ; لأن غايته أنه تقييد مطلق ; فعمل النية فيه أولى من عملها في [ ص: 62 ] تخصيص العام ; لأن العام متناول للأفراد وضعا ، والمطلق لا يتناول جميع الأحوال بالوضع ، فتقييده بالنية أولى من تخصيص العام بالنية ، وقد قال صاحب المغني وغيره : إذا قال : " أنت طالق " ونوى بقلبه من غير نطق إن دخلت الدار أو بعد شهر أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى ، وهل يقبل في الحكم ؟ على روايتين ، وقد قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم فيمن حلف لا يدخل الدار وقال : " نويت شهرا : " قبل منه ، أو قال : " إذا دخلت دار فلان فأنت طالق " ونوى تلك الساعة ، أو ذلك اليوم قبلت نيته ، قال : والرواية الأخرى لا تقبل ; فإنه قال : إذا قال لامرأته " : أنت طالق " ، ونوى في نفسه إلى سنة تطلق ، ليس ينظر إلى نيته ، وقال : إذا قال : " أنت طالق " وقال : نويت إن دخلت الدار ، لا يصدق ، قال الشيخ : ويمكن أن يجمع بين هاتين الروايتين بأن يحمل قوله في القبول على أنه يدين ، وقوله في عدم القبول على الحكم ; فلا يكون بينهما اختلاف .

قال : والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها - يعني مسألة نسائي طوالق وأراد بعضهن - أن إرادة الخاص بالعام شائع كثير ، وإرادة الشرط من غير ذكره غير شائع ، وهو قريب من الاستثناء ، ويمكن أن يقال : هذه كلمة من جملة التخصيص ، انتهى كلامه .

وقد تضمن أن الحالف إذا أراد الشرط دين وقبل في الحكم في إحدى الروايتين ، ولا يفرق فقيه ولا محصل بين الشرط بمشيئة الله حيث يصح وينفع وبين غيره من الشروط ، وقد قال الإمام أحمد في رواية حرب : إن كان مظلوما فاستثنى في نفسه رجوت أنه يجوز إذا خاف على نفسه ، ولم ينص على خلاف هذا في المظلوم ، وإنما أطلق القول ، وخاص كلامه ومقيده يقضي على مطلقه وعامه ; فهذا مذهبه .

فصل :

[ هل يشترط في الاستثناء أن يسمع نفسه ؟ ]

وهل يشترط أن يسمع نفسه أو يكفي تحرك لسانه بالاستثناء ، وإن كان بحيث لا يسمعه ؟ فاشترط أصحاب أحمد وغيرهم أنه لا بد وأن يكون بحيث يسمعه هو أو غيره ، ولا دليل على هذا من لغة ولا عرف ولا شرع ، وليس في المسألة إجماع .

قال أصحاب أبي حنيفة ، واللفظ لصاحب الذخيرة : وشرط الاستثناء أن يتكلم بالحروف ، سواء كان مسموعا أو لم يكن عند الشيخ أبي الحسن الكرخي .

وكان الفقيه أبو جعفر يقول : لا بد وأن يسمع نفسه ، وبه كان يفتي الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى هذا القول ، وبالله التوفيق ، وهذا بعض ما يتعلق بمخرج الاستثناء ، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية