[ ص: 63 ] فصل : 
[ المخرج الخامس 
فعل المحلوف عليه مع الذهول ونحوه ] 
المخرج الخامس : أن يفعل المحلوف عليه ذاهلا ، أو ناسيا ، أو مخطئا ، أو جاهلا ، أو مكرها ، أو متأولا ، أو معتقدا أنه لا يحنث به تقليدا لمن أفتاه بذلك ، أو مغلوبا على عقله ، أو ظنا منه أن امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على أن المرأة أجنبية فلا يؤثر فعل المحلوف عليه في طلاقها شيئا . 
[ 
الذهول والفرق بينه وبين النسيان   ] 
فمثال الذهول أن 
يحلف أنه لا يفعل شيئا هو معتاد لفعله فيغلب عليه الذهول والغفلة فيفعله   . 
والفرق بين هذا وبين الناسي أن الناسي يكون قد غاب عنه اليمين بالكلية فيفعل المحلوف عليه ذاكرا له عامدا لفعله ، ثم يتذكر أنه كان قد حلف على تركه ، وأما الغافل والذاهل واللاهي فليس بناس ليمينه ، ولكنه لها عنها أو ذهل كما يذهل الرجل عن الشيء في يده أو حجره بحديث أو نظر إلى شيء أو نحوه كما قال تعالى : { 
وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى   } . 
يقال : لهي عن الشيء يلهى كغشي يغشى إذا غفل ، ولها به يلهو ، إذا لعب ; وفي الحديث " { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=24747فلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء كان في يديه   } أي اشتغل به ، ومنه الحديث الآخر { 
إذا استأثر الله بشيء فاله عنه   } . 
وسئل 
الحسن  عما يجده الرجل من البلة بعد الوضوء والاستنجاء ، فقال " اله عنه " ، وكان 
 nindex.php?page=showalam&ids=14ابن الزبير  إذا سمع صوت الرعد لها عن حديثه ، وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=2عمر  رضي الله عنه لرجل بعثه بمال إلى 
أبي عبيدة  ثم قال للرسول : " تله عنه ثم انظر ماذا يصنع به " . 
ومنه قول 
كعب بن زهير    : 
وقال كل صديق كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول 
أي لا أشغلك عن شأنك وأمرك ، وفي المسند { 
nindex.php?page=hadith&LINKID=19892سألت ربي أن لا يعذب اللاهين من أمتي   } وهم البله الغافلون الذين لم يتعمدوا الذنوب ، وقيل : هم الأطفال الذين لم يقترفوا ذنبا . 
فصل : 
[ النسيان ضربان ] 
وأما الناسي فهو ضربان : ناس لليمين ، وناس للمحلوف عليه ، فالأول ظاهر ، والثاني : كما إذا 
حلف على شيء وفعله ، وهو ذاكر ليمينه ، لكن نسي أن هذا هو المحلوف عليه بعينه ، وهذا كما لو حلف لا يأكل طعام كذا وكذا ، فنسيه ، ثم أكله ، وهو ذاكر ليمينه ، ثم ذكر أن هذا  
[ ص: 64 ] هو الذي حلف عليه ; فهذا إذا كان يعتقد أنه غير المحلوف عليه ثم بان أنه هو فهو خطأ . 
فإن لم يخطر بباله كونه المحلوف عليه ولا غيره فهو نسيان ، والفرق بين الجاهل بالمحلوف عليه ولا غيره فهو نسيان ، والفرق بين الجاهل بالمحلوف عليه والمخطئ أن الجاهل قصد الفعل ولم يظنه المحلوف عليه ، والمخطئ لم يقصده كما لو رمى طائرا فأصاب إنسانا . 
[ المكره نوعان ] 
والمكره نوعان : 
أحدهما : له فعل اختياري لكن محمول عليه ، والثاني : ملجأ لا فعل له ، بل هو آلة محضة . 
[ المتأول ] 
والمتأول كمن 
يحلف أنه لا يكلم زيدا وكاتبه يعتقد أن مكاتبته ليست تكليما ، وكمن 
حلف أنه لا يشرب خمرا فشرب نبيذا مختلفا فيه متأولا ، وكمن 
حلف لا يرابي فباع بالعينة ، أو لا يطأ فرجا حراما فوطئ في نكاح تحليل مختلف فيه ونحو ذلك . 
والتأويل ثلاث درجات : قريب وبعيد ومتوسط ، ولا تنحصر أفراده ، والمعتقد أنه لا يحنث بفعله تقليدا سواء كان المفتي مصيبا أو مخطئا كمن 
قال لامرأته : إن خرجت من بيتي فأنت طالق ، أو الطلاق يلزمني لا تخرجين من بيتي ، فأفتاه مفت بأن هذه اليمين لا يلزم بها الطلاق بناء على أن الطلاق المعلق لغو كما يقوله بعض أصحاب 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي   nindex.php?page=showalam&ids=12068كأبي عبد الرحمن الشافعي  وبعض 
أهل الظاهر  كما صرح به صاحب المحلى ، فقال : 
والطلاق بالصفة عندنا كالطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم . 
[ المغلوب على عقله ] 
والمغلوب على عقله كمن 
يفعل المحلوف عليه في حال سكر أو جنون أو زوال عقل بشرب دواء أو بنج أو غضب شديد ونحو ذلك . 
[ ظن الطلاق ] 
والذي 
يظن أن امرأته طلقت فيفعل المحلوف عليه بناء على أنه لا يؤثر في الحنث ، كما إذا 
قال : إن كلمت فلانا فأنت طالق ثلاثا ، ثم قال : إن فعلت كذا فامرأتي طالق ثلاثا ، فقيل له : إن امرأتك قد كلمت فلانا ، فاعتقد صدق القائل ، وأنها قد بانت منه ، ففعل المحلوف عليه بناء على أن العصمة قد انقطعت ، ثم بان له أن المخبر كاذب   . 
وكذلك لو قيل له : قد كلمت فلانا ، فقال : طلقت مني ثلاثا ، ثم بان له أنها لم  
[ ص: 65 ] تكلمه ، ومثل ذلك لو 
قيل له : إن امرأتك قد مسكت تشرب الخمر مع فلان ، فقال : هي طالق ثلاثا ، ثم ظهر كذب المخبر ، وأن ذلك لم يكن منه شيء فاختلف الفقهاء في ذلك اختلافا لا ينضبط . 
فنذكر أقوال من أفتى بعدم الحنث في ذلك ; إذ هو الصواب بلا ريب ، وعليه تدل الأدلة الشرعية ; ألفاظها وأقيستها واعتبارها ، وهو مقتضى قواعد الشريعة ; فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي ، وإن فعل المكلف ذلك في أمر الشارع ونهيه لم يكن عاصيا ، فأولى في باب اليمين أن لا يكون حانثا . 
ويوضحه أنه إنما عقد يمينه على فعل ما يملكه ، والنسيان والجهل والخطأ والإكراه غير داخل تحت قدرته ، فما فعله في تلك الأحوال لم يتناوله يمينه ، ولم يقصد منع نفسه منه . 
يوضحه أن الله تعالى قد رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي والمكره ، فإلزامه بالحنث أعظم مؤاخذة لما تجاوز الله عن المؤاخذة به ، كما أنه تعالى لما تجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها لم تتعلق به المؤاخذة في الأحكام . 
يوضحه أن فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل النائم في عدم التكليف به ، ولهذا هو عفو لا يكون به مطيعا ولا عاصيا . 
يوضحه أن الله تعالى إنما رتب الأحكام على الألفاظ ; لدلاتها على قصد المتكلم بها ، وإرادته ، فإذا تيقنا أنه قصد كلامها ، ولم يقصد معانيها ، ولم يقصد مخالفة ما التزمه ولا الحنث فإن الشارع لا يلزمه بما لم يقصده ، بل قد رفع المؤاخذة عنه بما لم يقصده من ذلك . 
يوضحه أن اللفظ دليل على القصد ، فاعتبر ; لدلالته عليه ، فإذا علمنا يقينا خلاف المدلول لم يجز أن نجعله دليلا على ما تيقنا خلافه . 
وقد رفع الله المؤاخذة عن قتل المسلم المعصوم بيده مباشرة إذا لم يقصد قتله بل قتله خطأ ، ولم يلزمه شيئا من ديته ، بل حملها غيره ، فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب الأيمان ؟ هذا من الممتنع على الشارع . 
وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخذة عمن 
أكل وشرب في نهار رمضان ناسيا لصومه ، مع أن أكله وشربه فعل لا يمكن تداركه ، فكيف يؤاخذه بفعل المحلوف عليه ناسيا ويطلق عليه امرأته ويخرب بيته ويشتت شمله وشمل أولاده ، وأهله وقد عفا له عن الأكل والشرب في نهار الصوم ناسيا ؟  
[ ص: 66 ] وقد عفا عمن 
أكل أو شرب في نهار الصوم عمدا غير ناس لما تأول الخيط الأبيض والخيط الأسود بالحبلين المعروفين ، فجعل يأكل حتى تبينا له وقد طلع النهار ، وعفا له عن ذلك ، ولم يأمره بالقضاء ، لتأويله ، فما بال الحالف المتأول لا يعفى له عن الحنث بل يخرب بيته ، ويفرق بينه وبين حبيبته ويشتت شمله كل مشتت ؟ وقد عفا عن 
المتكلم في صلاته عمدا ، ولم يأمره بالإعادة لما كان جاهلا بالتحريم لم يتعمد مخالفة حكمه ، فألغى كلامه ، ولم يجعله مبطلا للصلاة ، فكيف لا يقتدى به ويلغى قول الجاهل وفعله في باب الأيمان ولا يحنثه كما لم يؤثمه الشارع ؟ وإذا كان قد عفا عمن 
قدم شيئا أو أخره من أعمال المناسك من الحلق والرمي والنحر نسيانا أو جهلا فلم يؤاخذه بترك ترتيبها نسيانا ، فكيف يحنث أن قدم ما حلف على تأخيره أو أخر ما حلف على تقديمه ناسيا أو جاهلا ؟ ، وإذا كان قد عفا عمن حمل القذر في الصلاة ناسيا أو جاهلا به ، فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به ؟ وكيف تكون أوامر الرب تعالى ونواهيه دون ما التزمه الحالف بالطلاق والعتاق ؟ وكيف يحنث من لم يتعمد الحنث ؟ وهل هذا إلا بمنزلة تأثيمه من لم يتعمد الإثم وتكفيره من لم يتعمد الكفر ؟ وكيف يطلق أو يعتق على من لم يتعمد الطلاق والعتاق ، ولم يطلق على الهازل إلا لتعمده فإنه تعمد الهزل ، ولم يرد حكمه ، وذلك ليس إليه بل إلى الشارع ، فليس الهازل معذورا ، بخلاف الجاهل والمخطئ والناسي . 
وبالجملة فقواعد الشريعة وأصولها تقتضي ألا يحنث الحالف في جميع ما ذكرنا ولا يطرد على القياس ويسلم من التناقض إلا هذا القول . 
وأما تحنيثه في جميع ذلك فإن صاحبه وإن سلم من التناقض لكن قوله مخالف لأصول الشريعة وقواعدها ، وأدلتها . 
ومن حنث في بعض ذلك دون بعض تناقض ، ولم يطرد له قول ، ولم يسلم له دليل عن المعارضة . 
وقد اختلفت الرواية عن الإمام 
 nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد  في ذلك ; ففيه ثلاث روايات ، إحداها : أنه لا يحنث في شيء من الأيمان بالنسيان ولا الجهل بفعل المحلوف عليه مع النسيان سواء كانت من الأيمان المكفرة أو غيرها ، وعلى هذه الرواية فيمينه باقية لم تنحل بفعل المحلوف عليه  
[ ص: 67 ] مع النسيان والجهل ; لأن 
اليمين كما لم يتناول حالة الجهل والنسيان بالنسبة إلى الحنث لم يتناولها بالنسبة إلى البر   ; إذ لو كان فاعلا للمحلوف عليه بالنسبة إلى البر لكان فاعلا له بالنسبة إلى الحنث . 
وهذه الرواية اختيار 
شيخ الإسلام  وغيره ، وهي أصح قولي 
 nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي  اختاره جماعة من أصحابه ، والثانية : يحنث في الجميع ، وهي مذهب 
 nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة   nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك  والثالثة : يحنث في اليمين التي لا تكفر كالطلاق والعتاق ، ولا يحنث في اليمين المكفرة ، وهي اختيار 
 nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي  ، وأصحابه . والذين حنثوه مطلقا نظروا إلى صورة الفعل ، وقالوا : قد وجدت المخالفة . والذين فرقوا قالوا : 
الحلف بالطلاق والعتاق من باب التعليق على الشرط ، فإذا وجد الشرط وجد المشروط ، سواء كان مختارا لوجوده أو لم يكن . 
كما لو قال : " إن قدم زيد فأنت طالق " ففعل المحلوف عليه في حال جنونه ، فهل هو كالنائم فلا يحنث أو كالناسي فيجري فيه الخلاف ؟ على وجهين في مذهب الإمام 
 nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد   nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي  ، ، وأصحهما أنه كالنائم لأنه غير مكلف .