صفحة جزء
[ الأدلة على وجوب اتباع الصحابة ]

فأما الأول فمن وجوه ، أحدها : ما احتج به مالك ، وهو قوله تعالى { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } فوجه الدلالة أن الله تعالى أثنى على من اتبعهم ، فإذا قالوا قولا فاتبعهم متبع عليه قبل [ ص: 95 ] أن يعرف صحته فهو متبع لهم ، فيجب أن يكون محمودا على ذلك ، وأن يستحق الرضوان ، ولو كان اتباعهم تقليدا محضا كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عاميا ، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذ .

فإن قيل : اتباعهم هو أن يقول ما قالوا بالدليل ، وهو سلوك سبيل الاجتهاد ; لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد ، والدليل عليه قوله { بإحسان } ومن قلدهم لم يتبعهم بإحسان لأنه لو كان مطلق الاتباع محمودا لم يفرق بين الاتباع بإحسان أو بغير إحسان ، وأيضا فيجوز أن يراد به اتباعهم في أصول الدين ، وقوله { بإحسان } أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم ، ويكون المقصود أن السابقين قد وجب لهم الرضوان ، وإن أساءوا ; لقوله صلى الله عليه وسلم { وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم } ، وأيضا فالثناء على من اتبعهم كلهم ، وذلك اتباعهم فيما أجمعوا عليه ، وأيضا فالثناء على من اتبعهم لا يقتضي وجوبه ، وإنما يدل على جواز تقليدهم ، وذلك دليل جواز تقليد العالم كما هو مذهب طائفة من العلماء ، أو تقليد الأعلم كقول طائفة أخرى .

أما الدليل على وجوب اتباعهم فليس في الآية ما يقتضيه . فالجواب من وجوه : أحدها : أن الاتباع لا يستلزم الاجتهاد لوجوه ، أحدها : أن الاتباع المأمور به في القرآن كقوله { فاتبعوني يحببكم الله } { واتبعوه لعلكم تهتدون } { ويتبع غير سبيل المؤمنين } ونحوه لا يتوقف على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل ; الثاني : أنه لو كان المراد اتباعهم في الاستدلال والاجتهاد لم يكن فرق بين السابقين وبين جميع الخلائق ; لأن اتباع موجب الدليل يجب أن يتبع فيه كل أحد ، فمن قال قولا بدليل صحيح وجب موافقته فيه ; الثالث : أنه إما أن تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أو لا تجوز ، فإن لم تجز فهو المطلوب ، وإن جازت مخالفتهم فقد خولفوا في خصوص الحكم واتبعوا في أحسن الاستدلال ، فليس جعل من فعل ذلك متبعا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعله مخالفا لمخالفته في عين الحكم ; الرابع : أن من خالفهم في الحكم الذي أفتوا به لا يكون متبعا لهم أصلا ، بدليل أن من خالف مجتهدا من المجتهدين في مسألة بعد اجتهاد لا يصح أن يقال " اتبعه " ، وإن أطلق ذلك فلا بد من تقييده بأن يقال اتبعه في الاستدلال أو الاجتهاد . الخامس : أن الاتباع افتعال من اتبع ، وكون الإنسان تابعا لغيره نوع افتقار إليه ومشي خلفه ، وكل واحد [ ص: 96 ] من المجتهدين المستدلين ليس تبعا للآخر ولا مفتقرا إليه بمجرد ذلك حتى يستشعر موافقته والانقياد له ، ولهذا لا يصح أن يقال لمن وافق رجلا في اجتهاده أو فتواه اتفاقا إنه متبع له . السادس : أن الآية قصد بها مدح السابقين والثناء عليهم ، وبيان استحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين ، وبتقدير ألا يكون قولهم موجبا للموافقة ولا مانعا من المخالفة - بل إنما يتبع القياس مثلا - لا يكون لهم هذا المنصب ، ولا يستحقون هذا المدح والثناء ; السابع : أن من خالفهم في خصوص الحكم فلم يتبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلوا به على ذلك الحكم فلا يكون متبعا لهم بمجرد مشاركتهم في صفة عامة ، وهي مطلق الاستدلال والاجتهاد ، ولا سيما وتلك الصفة العامة لا اختصاص لها به ; لأن ما ينفي الاتباع أخص مما يثبته .

وإذا وجد الفارق الأخص والجامع الأعم - وكلاهما مؤثر - كان التفريق رعاية للفارق أولى من الجمع رعاية للجامع ، وأما قوله : { بإحسان } فليس المراد به أن يجتهد ، وافق أو خالف ; لأنه إذا خالف لم يتبعهم فضلا عن أن يكون بإحسان ، ولأن مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم ، لكن الاتباع لهم اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد والقول ، فلا بد مع ذلك أن يكون المتبع محسنا بأداء الفرائض واجتناب المحارم ; لئلا يقع الاغترار بمجرد الموافقة قولا ، وأيضا فلا بد أن يحسن المتبع لهم القول فيهم ، ولا يقدح فيهم ، اشترط الله ذلك لعلمه بأن سيكون أقوام ينالون منهم .

وهذا مثل قوله تعالى بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } وأما تخصيص اتباعهم بأصول الدين دون فروعه فلا يصح ; لأن الاتباع عام ، ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعا لهم على الإطلاق لكنا متبعين للمؤمنين من أهل الكتاب ، ولم يكن فرق بين اتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها .

وأيضا فإنه إذا قيل " فلان يتبع فلانا ، واتبع فلانا ، وأنا متبع فلانا " ، ولم يقيد ذلك بقرينة لفظية ولا حالية فإنه يقتضي اتباعه في كل الأمور التي يتأتى فيها الاتباع ; لأن من اتبعه في حال وخالفه في أخرى لم يكن وصفه بأنه متبع أولى من وصفه بأنه مخالف ; ولأن الرضوان حكم تعلق باتباعهم ، فيكون الاتباع سببا له ; لأن الحكم المعلق بما هو مشتق يقتضي أن ما منه الاشتقاق سبب ، وإذا كان اتباعهم سببا للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده ، ولا اختصاص للاتباع بحال دون حال ، ولأن الاتباع يؤذن بكون الإنسان تبعا لغيره وفرعا عليه ، وأصول الدين ليست كذلك ولأن الآية تضمنت الثناء عليهم وجعلهم أئمة لمن بعدهم ، فلو لم يتناول إلا اتباعهم في أصول الدين دون الشرائع لم يكونوا أئمة في ذلك لأن ذلك معلوم مع قطع النظر عن اتباعهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية